محمود ياسين
في السياسة أقاوم كوني روائياً.. غير أنني
بحاجة لهذه الهوية بوصفي روائياً ينتظر رسالة من دار نينوى تخبرني أن "تبادل الهزء"
قد أصبحت جاهزة بغلاف أملس، وتحت العنوان مكتوب "رواية". حتى إنني شرعت في
امتداح "نينوى"، مناغماً إيقاع الاسم، وضمن بحث عن فضائل مدينة نينوى، وأفكر
أن بها قنوات ري وفتيات ومخزون رائحة بهجةٍ قديمة ومخازن حبوب وأسواراً. أما سلسلة
دار النشر "نينوى"، فلقد صادفت ما كنت أحتاجه من إطراءات لدار النشر، وكيف
أنها نخبوية ومتطلبة للغاية، لأخبر نفسي أنهم منحوني تلك الصورة الأولى من حلمي الكبير
عن ناشرين بالغي الحذاقة الفنية الأدبية، يلمسون في عملي الأول ما يشير لي بتواطؤ لبقية
الطريق ليس إلى العالمية بوصفها البسيط الذي يشي بغرور، بقدر ما هي الحاجة الإنسانية
التي لا يمكنني التخلي عنها، وهي حاجتي لوضع روايتي جوار المنتج الروائي المتداول،
ليس من أجل صفة "أحد الكبار"، ولكنه الحلم بتجاوز الرضا بثناء العرب على
كاتب يمني قد يضعونه إلى جوار الراضين بالتشجيع من أطراف الوطن العربي، وأشعر أنني
موريتاني رضي عنه المصريون.
لقد روعني احتمال استياء البعض من حلمي
هذا، أو الإفصاح عنه على هذا النحو، محاولاً تجنب مقولة "من يظن نفسه؟"،
وأنا فقط أظنني روائياً قد أنجو يوماً من كتابة تحاور لكنة السياسة المتداولة والمتحاذقة
غالباً، حيث جهد كتابة الأفكار بعناء توضيحي واستماتة على موقف وبلكنة تهجس بالتمسك
بالشرف، وكأن الكتابة عمل انتهازي ما لم يثبت الكاتب العكس.
السياسة تلوث روح الكاتب بطريقة ما، على
الأقل تدمغه بالتحاذق، وحين يكتب بتلقائية قد يبدو غير مدرك، لأن لكنة اللعبة وقانونها
الأول يعتمد براعة الالتفاف في حقل مكتظ بالألغام والفخاخ، ناهيك عن اللغة، ذلك أنه
من المؤلم... وأنت تتخلى بذلك عن لكنة وجودك الموارب، وهو في حال رضخ لنزعات الفن،
فإنما يرضخ بذلك لأكثر نزعاته أصالة وكابوسية وبهجة.
أتلمس وقوداً في ذاكرة أصدقائي وماضيهم،
وما تبقى من روائح بيوت أجدادهم، بحثاً عن كتل لتشييد رواية تدين في بحثها هذا عن روائح
بيوت الأجداد، للولع بمحاكاة عوالم "مئة عام من العزلة"، لكن قد يجد أحدنا
بطريقة ما نغمته الروائية، وموجة تردد عوامله الروائية تنبعث من كل الذي كان يوماً
مبعث شك وملامسة خاصة للوجود.. دون أن يتوقف أحدنا بسبب اكتشاف أنه في كل محاولة روائية
يبدو لنفسه مجرد نسخة من تجربة روائية شهيرة..
يقال إن جملة الرواية تلتقط من تفاصيل حياة
قابلة لأكثر من تفسير، وإن تلك الاحتمالات هي مساحة اشتغال الفن، وإن الفن يدين بتوهجه
لذلك التواطؤ مع نزعات المجون واللصوصية والانتهاك، حيث يلعب الضعيف لعبة المتوحد مأمون
الجانب، بينما تجوس أصابعه في أعمق محرمات محيطه الاجتماعي الذاهل.
لم يعد من المهم هنا الحديث عن الحلم الروائي
في صنعاء، ببديل يتجول فيه الروائي على هيئة مدينة بيوتها بأسقف مثلثة، وعلى أطرافها
تصفر أوراق خريف الصنوبر، وتتساقط، بينما يحدق هو مرتدياً البالطو الأسود. هذا قد كتبه
أكثر من مرة، حيث أشرت تباعاً... مكتشفاً وهو في صنعاء، أن مبعث ذلك الحلم هو أن الرواية
نبتت أصلاً في أوروبا الثلج المتساقط والأسقف المثلثة، حول المتوحد الروائي الأنيق..
وكأن خشونة مذبح وتثاؤبات الحصبة، وما يدور خلف ستائر بيوت شارع هائل، لا يستحق أن
يروى. وإنك إذ تعود إلى بيتك من خلال شارع الستين، فإنما تحصل على بيت الرئيس كموضوع
وسبب للكتابة، وبالتالي لموضوع سياسي.
يحاول أحدنا بأكثر من طريقة الاحتيال على
شروط وجوده وإيحاءات طريق ذهابه وعودته، ليس لإنجاز رواية عالمية بالضرورة، ولكن للإبقاء
على حلم لا يعود لحياة أحدنا معنى في حال فقدانه.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق