السبت، ديسمبر 28، 2013

الحادث


محمود ياسين

تبدأ في تقدير الحياة عندما توشك على فقدانها.

كنت أظنها براعة التجاوز بالسيارة، وأسميها بلكنة مرحة "تمريرة"، كيف تمر قريباً من صدام خلفي لقاطرة، وبمحاذاة مقدمة ملساء بيضاء لتاكسي، ضمن مرح ملء الفراغات أمامك، مشعلاً سيجارة ذلك الجامح الهازئ من حرص الحياة.

لطالما كان محمد العلائي يقرفص في المقعد الأمامي، مردداً: انتبه يا محمود. وأنا أقدم له تمريرات من ذلك النوع الذي يتلاعب بمخاوف الآخر إلى جوارك، لكنني البارحة كنت لأمضي بقية حياتي مذنباً بموت صديقي ذي الشعر السلس، الذي تطيره الريح، وهو مغمى عليه إلى جوار شجرة، حيث استقرت السيارة مقلوبة على ظهرها، توشك على الانفجار.

وتوشك هذه الحالة تلبسني من الإفراط في مشاهدة الأفلام الأمريكية، حيث ينبغي أن تنفجر السيارة بعد انقلابها بثوانٍ تزيد أو تنقص عن حاجة من بداخلها للهرب، لكنني كنت أتلفت بكامل يقظتي، باحثاً في المقاعد الخلفية عن محمد، بينما كان أحمد الحبيشي مصمماً من المسجلة على ترديد "خطر غصن القنا".

وجدته ملقى بين الحشائش (العلائي وليس الحبيشي)، ومن وضعيته بدا لي ميتاً بسببي المتبجح الاستعراضي، فداخلني لحظتها إحساس عميق بالشؤم تجاه استعراضات اللااكتراث.

حدث ذلك كله قبل نقطة "الأزرقين"، عندما حاولت تجاوز "هايلوكس" تفصلني عن حفرة، ويبدو أن سائق "الهايلوكس" لا يحب التمريرات، فلم يخفف سرعته، وبمؤخرة "الشيفروليت" على رفرف "الهايلوكس"، فقدت السيارة توازنها، فتفرغت للتيقظ في الصدمة.

هو العلائي أصلاً جاء بعد الغداء، يريد مني تمشية إلى عمران، فلقد كان متضايقاً من أمر ما. قلت لنفسي: تمشية لعمران! لكنني مشيت على كل حال، وها أنا أدعي المرح، فلقد دفعت ثمناً فادحاً قبل سنوات لحالة استسلام لكآبة صدمة عاطفية، فلم يكن لديّ سيارة أيامها، لذلك يتعلم أحدنا كيف يتقبل هبات الحياة الجديدة بمرح، دون أن يتمسك بالطبع بتمريراته الخطرة، ناهيك عن أن تكون هذه التمريرة إلى جوار أنف همداني لا أدري كما يقولون في البلاد "علِّي وإلاّ سفِّل"، وأنا في جربة القات أبحث عن صديقي، وعن شجاعتي الداخلية، وعن سبب وجيه لولع الحياة بالمفاجآت الجلفة أحياناً.

عدت ظهر اليوم لـ"الأزرقين"، اليوم هذا الذي أكتب فيه هذه المقالة، وهو أمس بالنسبة لك وأنت تقرأ.. عدت برفقة "ونش"، وكان أصحاب الجربة، والشاب الذي قلت له وأنا ألفلف العلائي: "سيارتي بوجهك"، وأناس شغوفون بالوقوف لتملي سيارة مقلوبة.. ومن وضعيتها والمسافة، وحجم الدمار الذي لحق بها، أدركت أن يد الله تدخلت في اللحظة الأخيرة، وبقيت أحاول تلقي مكالمات التهنئة بالسلامة من القراء والمحبين والزملاء، والتلفون لا يكف عن كونه يقطوع ويتلاعب بالصوت أحياناً، وأنا بحاجة اليوم لسلامته لأخبر عن سلامتي بوضوح، وأتفاكه مع الدكتور ياسين، وأقول له إن السنوات التي قضيتها شاباً نشأ في عبادة الله، ربما شفعت لي لحياة جديدة، فلم تعجبه المفارقة التي ظننتها مزحة.

اليدومي، هو الآخر، لم ترقه المفارقة، مع أنها إسلامية، فهربت من حرج ما بعد المفارقات المخيبة للآمال، لنصيحة الاثنين بالاتصال بالعلائي في المستشفى السعودي الألماني، الذي ليس فيه ولا ألماني ولا حتى سعودي، وفيه ممرات طويلة، وتصميم يبدو تصميم مستشفى، ولكن بلا قلب.. حيث تتجلى القسوة في مزاج المدير المالي، وهو يتصلب، ليس معي وحدي، ولكن مع كل من يصل مجروحاً يحتاج لرعاية أولاً، ودماثة في تحصيل التكاليف.. ولقد دفعتني فظاظة الكائن المالي لرهن "الآيباد" أول ما وصلنا.. "آيباد" صدق مش الصيني.. لا أدري كيف بقيت أتأبطه وأتأبط العلائي معاً..


لكن غالباً ما تجد في صدمات كهذه، رفقة الشهور الأخيرة، أكثر جاهزية لحظة حاجتك لمزايا الرفقة والصداقة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق