السبت، أغسطس 14، 2010

علاقة مأساوية مع الكتب *

محمود ياسين

لم أعد أقرأ كما كنت.. وأصبحت بالتالي أدافع عن الأفلام وأدافع عن فتور علاقتي بالكتب.. أذكر أن رواية سببت لي ما يشبه حالة انهيار، وذلك لا يدعو للمباهاة الروحية، إذ لم أكن حين قرأت الرواية تلك شفافاً أو ما شابه.. كنت في ما يبدو ساذجاً ساعتها.. أتقحم علاقة مضنية مع بعض الكتب لأتأكد فقط من كوني تخطيت تلك الذكرى.. وربما ليبقى أحدنا مثقفاً فهو لا يجيد شيئاً آخر في هذه الحياة.. لا يوجد سبب يمكن الاعتماد عليه في محاولة فهم لماذا تتحوَّل علاقتنا بالكتب إلى ما يشبه مأساة إغريقية.. ولا سبب مفهوماً أيضاً في هذا التعميم وكأنني أتحدث عن جبل بأسره قرأ رواية (فيرونيكا تقرر الانتحار) لباولو كويلو، في لحظة سذاجة عابرة، وهو الآن يقتحم علاقة مضنية مع الكتب، حتى أنني بقيت فترة طويلة أتحاشى اسم (كويلو) فراراً من إيقاع اللام والهاء والواو تحديداً، فسَّرها فتحي أبو النصر في ما بعد بمقولة (جرس الكلمات ..( ما أعنيه على وجه الدقة هو أن شيئاً من التوجُّس يتدخل في علاقة دنيانا بالكتب، وهو أيضاً (التوجس) وسيط بين المثقف وضروب المعرفة.
وينبغي للمرء أن لا يحاول أن يبدو منصفاً- في كل صغيرة وكبيرة- ليتحدث ببساطة عن فكرة الألم المرتبطة بالحياة برفقة الكتب وفنتازياتها وتأملات الفن.. ناهيك عن هذه المشروعات الروحية والبرمجيات والبحث الدائم عن آليات دفاع لروح المثقف... ويبدو أن عليَّ التحدث بلغة(في أوروبا والدول المتقدمة) لأدافع عن حقي في تحويل علاقتي اللعينة بالكتب إلى مأساة جيل دون أن أخشى فكرة (نصب نفسه متحدثاً باسم)، إذ أنه في أوروبا والدول المتقدمة يمنح الفرد نفسه حق ادعاء فهم ما يخفيه الناس في أعماقهم ويريد ثمناً جيداً مقابل إفصاحه عن (ما يعتمل)، ولم يعد الأمر في ذلك النوع من البلاهة في وصف رواية بأنها (تغور في أعماق النفس البشرية)، إذ أن الفن كله لا يقوم بشيء آخر عدا ذلك الغَوْر، والمحصلة أن الحياة عندنا على حساب السرد الحاذق لتفاصيل الألم وترتيبه بذكاء لم تعد فكرة جيدة .. إنهم يصدقون مع مرور الوقت ويصبح على نفسية المبدع خلق مقاربات مؤلمة وكافية الهوية الشريد المتعالي أو الإنساني الذي يعاني بسبب شخصيته الفذة.. إذ لا ينبغي أن يتألم الإنسان بسبب أنه عميق.. وفي أكثر من مجادلة دافعت عن هذه الفكرة التي تدَّعي كشف أحد أخطر فخ تنصبه الثقافة والإبداع تحديداً في طريق سير حياة أحد هؤلاء الناس.. إنه ضرب من الخداع الاستراتيجي أن تتواطأ الحياة لإقناع شخص بكونه متألماً وذكياً معاً.. وأن تلك هويته ولكنة وجوده، وينبغي عليه الشعور بالرضا اليقيني أمام ضروب شكه وخلافاته. الشك المخادع الذي يتم تقديمه لك على أنه موقف انطولوجي لا تدري إلا وقد أصبح ريبة في مدى ملاءمة كل ردود أفعالك إزاء كل شيء.. وفي الأخير يتعب المرء ويودُّ لو يترك للمـتأنق الذي في أعماقه فرصة أن يتجول بسطحيته خفيفاً من أعنف مطارحات المعرفة والسيكيولوجيا.. أظن وظيفية الفن واحدة أو هي أم اللعنات في حياة المبدع الملتبسة.. إذ تتحول المأساة إلى زاوية رؤية لفضاءات الحياة، وتقفز التشظيات من لحظة انفعال الفن ومن الصفحة الأولى في الديوان إلى قطعة الشوكولاتة وتشظيها وتتحول إلى وظيفة (يمكن تحويل هذه اللحظة مع الشوكولاتة) إلى سطر في ديوان أو عنوان طموح في مشروع أكبر.. إذ تتطلب كل لحظة مجهودها الروحي الخاص بها وحقها في مكانها اللائق بين صدرك وزاوية صحيفة. أو في هذا الفراغ المتثائب بينك وبين صديق تدرك إلى أي مدى هو حاذق في تقدير ومضة (شوكولاتة متشظية هي الأخرى) تدع له أن يبتزك وتدفع على الدوام وتؤكد، ولم يحدث يوماً أن نظرت دونما احترام كامل وصادق لألم الناس وطريقة المبدعين في البوح، غير أن هناك طريقة أخرى حتماً للتعامل وهذا الألم.. عدا القبول بمقولات الطفولة السيئة والكبت والمصير الإنساني.. ثم إن هذا غير عادل البتة أن يتجوَّل أحدنا مُشرعاً روحه في الفراغ للإمساك بتلابيب اللحظات الهاربة.. يخطر لي أن لا أدافع عن كوني مستاءً من الألم الذكي حتى لا أبدو مثل شاعر داهمته التجارة وبوده لو يأتي رفاق الماضي إلى السوق.. كلما هنالك أنني لم أعد أخشى باولو كويلهو.. وفيرونيكا قررت الانتحار ليس لأنها ساذجة ولكن لأنها فيرونيكا.. وثمة ما يجعلني متأكداً من أن باولو هو من دفع فيرونيكا لاتخاذ قرار غريب كهذا، وذهب بعدها لتناول العشاء مع سيدة لاتينية لا تراودها أفكار غريبة من أي نوع.. أين أضع فكرة أن صموئيل بكييت كان يفاوض على كل بنس من حقوقه في تأليف (مسرحيات العبث واللامعقول).. أهذا شرط حياتنا أن نتجول كمنهوبين لا تزال لديهم أرواحهم؟ إنني أعاني وأقترض وأتحاشى الضعف، ولا أريد أن أصدق ذلك المنطق الذي يفتقر إلى الرحمة وهو يقدر أن هذا هو المصير الإنساني.. أبحث عن الحماسة وأنا لا أريد أن أتألم بعد.. أي عدالة في أن يقنعك سارتر بأنه وأنت في الدور السابع من مبنى أو تكنس بوابة هذا المبنى، وأياً تكن مهنتك مدير شركة أو طاهية بارعة فإنه لا يمكنك أن تكون غير الذي كنته طفلاً.. إذاً فليتوقف أحدنا عن كل فعل لا ينظر إلى العالم ببراءة ووجل، وكانت آلام سارتر تقفز من طفولته لتغتال قطعة الشوكولاتة إلى فمه هذا في مذكراته (الكلمات). لكن أظن الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر أشعل وميض الحماسة في أرواح كثيرة في العالم، وتمكنت طريقته في التفكير من تغيير حياة أناس كثيرين.. حتى أنه كان متأنقاً وزير نساء يدين فظائع الاحتلال الفرنسي للجزائر ويقود مظاهرات .. ووجوديته فرنسية في الأزمنة الحديثة ولم يكن مضطراً يوماً لتقديم جسده قرباناً في معركته مع التراث. لا أظن وجوديته كانت التباساً بحال حتى في الغثيان. حتى وهو يودع) السيدة ذات القبعة .. والرجل المتبذل سترته السوداء . وأنماطاً بشرية أخرى) يودعهم بلكنة متعالية: وداعاً أيها الكريهون، فهو كان يقوم بذلك وفي أعماقه نبرة روح ظافرة تتصاعد بنشوة.. وكان يعرف أن لا أحد سيتكاسل عن إبداء الإعجاب إزاء رجل شهير وعميق جداً يودع الكريهين، إذ أنه لديه أسباب عميقة بالتأكيد. وكان يدرك أن فكرة على غرار (ماتت السيدة جارتنا ولم أكن متواجداً أيامها وحين عدت حلمت بمؤخرتها في الليل وكانت تلك تحية لروحها العظيمة).. نوع من استباحة وجدان أبناء سيدة متوفاة يعرفون أن العالم المتاخم لحياتهم يعرف من هم، على وجه الدقة جيران ماضي فيلسوف يكتب مذكراته. وترضخ الحياة آخر الأمر لبهلوانيات الأشخاص المدهشين وترفع التحية لأرواحهم العظيمة. كل الذي أريده أن سارتر يحضر عندنا مثل كاهن يبارك طقوس العزلة، وهو كان محاطاً على الدوام بصداقات ذكية ولم يكن جحيمه ليتجول معه على أي نحو وإلا لما وجد الوقت الكافي لتأليف كل تلك الكتب، ولما وجد الشجاعة الكافية أيضاً لدخول قاعة مسرح أوروبا متأبطاً محاضرة في الفلسفة الوجودية (الغثيان) ويريد إلقاءها على أنها مسرحية. مسألة خيارات متعددة، وتحويل كل شيء إلى وقود من نوع ما ومبرر ذكي لاختيار نمط حياة وليس هدرها.
في مسرحية (ربة المأساة) أراد هنري جيمس أن يبرهن على جدوى الإنجاز.. الإنجاز المعروف والمتداول في حياة ينبغي لنا القيام فيها بأشياء ملموسة، ومن أجل الدقة فهو لم يتباها إزاء المشروعات الروحية، غير أنه أراد التأكيد على كونها غير كافية. وأن شعوراً جيداً سيأتي من الإنجاز الفعلي ويمكن ملامسته تماماً أكثر مما قد تتمكن حالات المنفى الاختياري ومجاهدات الامتلاء أو السعي المستميت لإدراك كنه الأشياء .. ليس بحثاً عن الرضا ولكن هذا ما هي عليه الحياة.. لا يدعو استحضار هنري جيمس على هذا النحو البسيط لاقتراح أنه كان يستيقظ تمام الثامنة ويسهر على صحة أطفاله، فهو لم يتزوج، واختار ذلك من أجل الحرية وليس ليتمكن في عزلته الشديدة من الوصول إلى المطلق. وفي أكثر من مسرحية أشار بدون تهافت إلى غرائبية تقديم الحياة قرباناً للفن .. خسرانات ولحظات فقدان وعدم دراية بما يمكن للإنسان القيام به.. وفي تلك المسرحية تحديداً (ربة المأساة) يتورط أبطالها المشتغلون بأنشطة معرفية وثقافية يتورطون في ذلك المجال الهائل للتعويل على الروح
ربما في مسرحية (غنائم بوانتن) قامت فليدا بكل شيء وبغير حماسة روحية، ولم يذكر هنري جيمس عن فليدا ما قد يشير من قريب أو من بعيد لكونها مثقفة أو روحانية بدرجة ما. وبالتالي لم يمنحها ألماً يوازي حاجة مسرحيته للتحذير من الروحانيات. كانت فليدا ذكية كما هو المعروف عن الذكاء في هذه الحياة.. حينما يقترح الذكي أشكالاً متعددة للنجاة من الوحدة والحرمان أو إظهار الضغينة لحياة قررت لفليدا شخصية تتصادم وكل ما تتوق إليه فليدا.
متحفظة للغاية.... كأي امرأة مقتضبة ونزيهة تبحث عن الحب. ولم تتردد لوهلة في التعلق بنقيضها السيكيولوجي. رجل غير مقتضب وغير متحفظ البتة. كان طويلاً وجذاباً فحسب. لكنها أخفقت على كل حال، وما أصفى ذلك النوع من ألم امرأة أحبت وأخفقت في لحظة عاصفة وأجواء قاتمة وقد جعلها هنري جيمس امرأة قوية مغلوبة بحق بضاحية لندن .بينما وهي في العاصفة تقول: أخيراً سوف أعود أدراجي.. هذا النوع من تجارب البشر هو ما يجعل أحدنا يؤمن بالمحاولات حتى وفليدا تعود أدراجها.


* نشرت في مجلة "صيف" يناير 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق