محمود ياسين
إذا كان عليك الاختيار بين نمطين للعيش أحدهما آمن والآخر سقيم فيجدر بك اختيار النمط الآخر، وجازف وتذوق طعم الخطر وبهجة الاكتشاف.
هذا العالم قاس لا يدع الطيبين المسالمين
وشأنهم، ولطالما سمعت في حياتك قصصاً ومضارب أمثال تدور حول (ما أحد يخليك تموت مسلم)
هي أصلاً دنيا محكومة بقوانين التجريب والاكتشاف والمجازفة، ذلك أن السير إلى جوار
الحائط بعيداً عن مفاجآت عالمك ومباهجه وتغولاته، فذلك سيمنحك طول العمر الذي تقضيه
بلا سجن ولا عنف ولا عداوات وستربح قبواً رطباً آمناً يليق بجثتك وقد تجاوزت الثمانين
عاماً، لم تؤذ فيه أحداً ولم تتعرض لهول الخيانات والمجازفات.
وهذا ليس مضموناً، ذلك أن أناساً ظلوا في
حالهم وحاولوا السير بصمت وخفة حتى لا يلفتوا إليهم وحوش الحياة الرابضة، غير أن ثمة
ما فاجأهم وشرخ هدوءهم وحولهم إلى ضحايا.. وأنت مكره، فتعلم أحياناً كيف تكره، وكيف
تغادر زمانك إلى المجهول.
لا أدري كيف يمكن حث الناس على المجازفة
دون أن يبدو ذلك أشبه بنصيحة بقدر ما هو دفع لاختيار الهاوية.
إذ لا أروع في هذا العالم من مغاراته وأشباحه،
ونزقه الكارثي وليس هناك ما هو أكثر أصالة من معانقة الكارثة والتحديق في عينيها بجذل
وملعنة مرحة.
لقد بقيت تلك السيدة التي أعرف، تتوخى الحذر
والستر واستيقظت في الشارع وحيدة ومطلقة، ذلك أن زوجها من النوع الذي يحتاج دوماً لقبضة
حول عنقه ليشعر أنه متزوج بينما بقيت هي تبلع أخطاءه مدعية الرضى، وانتظار حكمة أن
يتعقل دوماً في دنيا معتوهة أصلاً، وكان ذلك الرجل مريضاً بالحث العنفي وقدرة الصخب
وحده على إشعال إرادته الشبقية، وهو أصلاً كان يشعر أنه ينام إلى جوار تابوت رزين متعقل،
فهرب تاركاً المسكينة لفداحة ثمن تعقلها وطبع بنت الأصول.
لطالما عرف الإنسان في قرارة نفسه حاجة
حياته، والحياة كلها لقادمٍ من نوع ما. شيء يشعل ما تبقى من إرادته على المقاومة وبهجة
ما بعد النجاة من الكوارث.
ذلك ان الأمان بيروقراطي متطلب، وله رائحة
الابتزاز. كم مرة يا صديقي صادفت رجلاً أصبح حيوياً تضج الحياة في وجهه عقب اختباره
لتجربة سجن كان يخشاه أو عنف جسدي لطالما تحاشاه.
أذكر أن نيتشه الفيلسوف الألماني الشهير
والمجنون أخبر في بعض نظرياته عن سعي الفلاسفة والمصلحين لخصاء الإنسان، وهم يعدون
له قائمة بما ينبغي عليه اتباعه ليشعر بالسعادة والأمان. يرفض نيتشه تلك التعاليم باعتبارها
سعياً لتجريد الإنسان من نزعاته الأصيلة في أعماقه البدائية بما في ذلك تجريده من نزعة
الشر وذلك هو ما يقصده بالخصاء.
ليس هذا تمجيداً للتشريع بقدر ما هو حديث
عن حق الإفلات وتجريد الكمائن خارج الطريق اليومي المرسوم لكل منا والذي يقتفي فيه
الإنسان مدفوعاً بخوفه الغريزي تعاليم الأمان
والسلامة، متخلياً عن فضوله الإنساني وحاجة عقله للصدمات وجسده لاختبار العنف.
هناك عطش لا يتأتى إلا من لهيب الشمس، وهناك
مسرات لا تتواجد إلا في أعمق الغابات وأكثرهن وحشة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق