محمود ياسين
ربما ينبغي لنا استعادة حماسة مراقبة الأداء العام. فتيان زي الجن، يجلسون أمام شاشة الكمبيوتر، ويدخلون أصابعهم في عين أعتى متنفذ، وأمسى بوسع هذه الأصابع أن تدخل من خلال الكيبورد إلى جيوب الهباشين، واستخراج المسروقات، أمام حشد من المتجولين في العالم الافتراضي، الذي أمسى محركاً لكتل الواقع، ودافعاً لها بأكثر من اتجاه.
تقدم لك تحولات العالم فجوات كثيرة للنفاذ
إلى قلب كل ما كان مستغلقاً تاريخياً. وبدلاً من القلق يمكنك ملاحقة نبلاء الحقبة الجديدة،
الذين انكشفوا أمام رعب "فيسبوك" والصحافة، وكأن هؤلاء الفتيان متجمهرون
أمام بيت شيخ قديم يخزن عنده كل أشرار المنطقة وكبارها، ولا تدري إلا وكل واحد قفز
لرقبة كبير خاطئ، وطرحه أرضاً.
لقد تمكن محمد سعيد الشرعبي من جعل حياة
حمود خالد الصوفي، من خلال هذا الإنترنت الفسيح، قفصاً أو زنزانة متجولة على مقاس حمود
خالد، لا تفارقه. وأعرف أنه لم يعد ملائماً الآن هدم هذه الفرصة التاريخية التي قدمتها
المواقع الاجتماعية، على هيئة مماحكات بين أطراف وجماعات ضمن عملية تبادل للهزء بين
بعض الفتيان، لحساب وظيفة الاستقطاب، بينما يفترض بهذا كله التوجه صوب وظيفة مراقبة
الأداء العام.
هو أصلاً لا يمكنك قسر الجميع على النزاهة؛
ذلك أن ثمة أكاذيب قد يسوقها البعض لتصفية حسابات شخصية، غير أن هذه المواقع سترشد
صوتها تلقائياً، وسيتمكن الجو العام في المواقع من تخليق معايير ولهجات للنزاهة والتصرف
بمسؤولية.
لطالما حلمت حتى بفكرة مهرجان وجودي (للأرض)،
وتحويل المواقع لمنصة استياء، ليس ضد السياسيين الفاسدين فحسب، ولكن ضد كل ما هو مؤرق
ومؤلم بالنسبة لجيل أمسى عليه رفض الأبوية، وكل أشكال القمع الاجتماعي.
قلما تجد من يدين تابو الجسد والأخ الأكبر
والعشيرة، وعذابات المراهقة في مجتمع بالغ القسوة التي تبرع فيها الجلافة التاريخية.
يخبرني أحدهم على الخاص أنه غاضب من انتمائه
القسري لعائلة غنية لم تمنحه شيئاً عدا مكان ضيق في حدرة الغداء، وفرش قرب الباب، وتطلب
إليه أن يكون ناجحاً وغير مبذر. وإدانة التبذير هذه هي أسوأ ما يقض مضجع الفتى الذي
ختم رسالته هكذا: أرعبوني بتهمة التبذير، ولا يدوا لي ريال واحد, بأيش أبذر أصلاً.
في برنامج صادفته بقناة عربية تنقله وتترجمه
عن قناة أمريكية، ثمة مجموعة فتيان يتحدثون عن ضروب العسف العائلي مباشرة وعلى الهواء،
وأحدهم يتحدث وعيونه تفيض بالدموع، كيف أن أباه كان يحبسه في خزانة الملابس، فاتصل
الأمريكيون من كل ولاية يشاطرون الفتى إدانته للساعة التي كان يقضيها في خزانة الملابس:
أنا بالطبع لم أغمغم "ضربونا بالشمبل"، ولم يتضامن معنا أحد، ولسنا ندري
إلى الآن إن ذلك عسفاً أو ظلماً. أما الفتى الآخر والنحيل من ولاية داكوتا الشمالية،
فجل ما يؤلمه هو أنه كان يلمح في عيني أبيه حالة دائمة من اللاثقة في قدراته، مما جعله
يخسر في صد ضربة مهمة في لعبة لا أدري اسمها.
أما أنا فلطالما كان أبي شفوقاً ككل الرجال
الأذكياء، ونحن بطبعنا البيئي لا نتحسس أشكال التأديب بذلك المستوى النفسي من ألم العسف،
غير أن عسفنا هو في الأساس عسف "اللااختيار"، ولم يتمكن أحدنا إلى الآن،
كما حدث في تجارب مجتمعات كثيرة؛ لم يتمكن من تمويل قصة حرمانه من الاختيار، إلى صرخة
تحريضية تؤسس لشراكة بين كل المعتسفين، لنحصل على حالة أولية لتحول اجتماعي.
ثمة ركود مهول في قاع بيتنا وشروط وجودنا،
ولا نكاد نصغي لأصوات قادرة على تبصيرنا بمظالم نعاني تبعاتها، دون أن نتعرف إليها،
أو نمتلك صيغة مقنعة لتقديمها كشيء بشع، ربما يكون هو الجذر المستطلب الذي تطفو منه
كل أمراضنا غير المفهومة هذه.
ثمة امرأة أوروبية صفقت الباب خلفها بعد
الـ12 منتصف الليل، في الستينيات، ولم يكن من إنترنت أيامها، غير أن نساء أوروبا سمعن
صفقة الباب تلك، وضجت ليالي أوروبا بعدها بصفق الأبواب خلف نساء سئمن الاحتمال.
يخبرك أحدهم أن أباه لطالما اعتبره فاشلاً،
وكيف أنه كان يوقظه بالماء البارد لصلاة الفجر، وكيف أنه حرمه من الفتاة الوحيدة التي
أحبها، وزوّجه قسراً بابنة عمه، فكرهها وكرهته، وبقيا يتكارهان وينجبان المزيد من الأطفال،
وكيف أنه شاهد برنامجاً مشابهاً للبرنامج الذي حدثتكم عنه بداية المقالة، فأدرك هول
ما تعرض له، وبقي بعدها كمثقف نهم يبحث عن كل نصوص "قتل الأب" بالمعنى الفني
(موش بالرصاص)، يعني كيف يميته كأداة قسر ورقابة، غير أنه فشل، ويقسم لي إنه إنما يغادر
البيت مبكراً إلى الوظيفة، مدفوعاً بحمى أبيه، مؤكداً "أحس بالحوم حقه برقبتي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق