الجمعة، أكتوبر 08، 2010

أيام ريمي

محمود ياسين


بينما كان أطفال العالم الغربي يلعبون في "دزني لاند" يحلقون في الأفعوانيات ويتصادمون بالسيارات الكهربائية، كنا نلعب في القرية رجم حجار؛ لا يعود أحدنا إلا وجبهته مشوهة بورم من ذلك النوع الذي يقلل من ليونة الطفولة.
إذ كان الطفل الغربي يعود من مدينة الملاهي بمخاوف ملهمة لها علاقة بالشغف والمغامرة الملائمة , بينما يعود أحدنا بمخاوف ان يبدو ذليلا أ وأن يتعرض للعقاب .
وتطور الأمر إلى دحرجـة إطارات القلابات الضخمة من أسفل العقبـة الى أعلى نقطة فيها لأجل متعة ترك الإطار الهائل يتدحرج خلال عشر ثوان إلى الأسفل مقابل مجهود عشر دقائق. ودفع الإطار إلى أعلى العقبه مجدداً ودحرجته وهكذا.. صخرة سيزيف.
وما أن نسمع عن وجود "دركتل" في القرية المجاورة , حتى نتسابق في المخاليف الطويلة لمراقبـة آلة هائلة لا تكف عن الصرير ونقل الأحجـار والتراب .
غالباً ما كان يترتب على أي نشاط من ذلك النوع، عقاب أسري رغم أن النشاط كان عقاباً بحد ذاته : جري لا يكاد ينقطع , ومنازلات غير عادله.
نلاحق "القلابات" لنركب بدون وجهة تخصنا, والسائق يلعن أباك وأمك وأنت منشب أصابعك مثل كلاليب كائن بدائي .
ونعود من أبعد قرية في المنطقة مشياً على الأقدام, وكان حذائي ضيقا على الدوام, ويصدر صوتا مخزيا أثناء السير في المطر.
جاء التلفزيون وكنا يومياً نغادر إلى سوق المنطقة حيث صندقة "جميعه" نقف بإذلال لمتابعة "جراندايزر" وهو ينطلق ويدمر صحن الفضاء, ولطالما امتعضت بيني وبين نفسي من تسمية صحن؛ إذ كانت أقل تقديراً مما يبدوعليه الوحش.
وكان القائد جندال يطلق تهديداته كل يوم دون أن تفقد هذه التهديدات في وجداننا أي درجـة من الجدية وإثارة مخاوفنا لأجل جراندايزر رغم أن القائد جندال كان يهزم كل يوم ويتوعد آخر كل حلقـة وكان وعيده هو الذي يتبقى دائماً.
كان ذلك تاكيدا على إخفاق هذا العرض التلفزيوني في إقناعنا بحتمية انتصار الخير على الشر.
في النهاية ينفجر صحن الفضاء غير أنه يتم تقديمه بصورة ملائمة للقدرة على إلحاق الأذى, بينما كان جراندايزر أنيقا و كان ذلك هو ما يحببه إلى قلوبنا.
وما أن يعلن جراندايزر " الرزة المزدوجـة " حتى يبدأ "جميعه" في إعلان تبرمه اليومي من مزاحمتنا له في مكان رزقه ؛ إذ يهتف بعد أن يصفق: خلص.. خلونا نطلب الله.
تذكرك الرزة المزدوجـة بالعقبـة التي عليك تسلقها في طريق العودة.
وبهذا المنحى الإجباري لإثبات نجاعة أسلحة بدائية تشبه "الفاروع" الذي يستخدمـه أحد شقاة الحفر في قريتك , ولم يحدث يوماً أن تشاركت وأحد عقال قريتك في تلك اللحظـة التي يقوم فيها السيد فيتالس بقص بنطلون "ريمي" ثمة ما كان يلقي في روع طفولتنا على الدوام , قصة ريمي كانت مؤلمـة وأكبر من قدرة طفولتنا على الاستيعاب إذ لم يخطر لأحدنا أن السيد فيتالس كان رجلاً طيباً فهو قد اشترى ريمي واشترى له "بنطلون" قام بقصـه حتى ما فوق الركبـة. كان السيد فيتالس النموذج المقابل لما استقر في عواطفنا عن " أبو كلبـة " الذي يسرق الأطفال .
فمن منا كان ليدرك بعاطفته البسيطـة تلك , معنى السير برفقـة فنان متجول صوته يحشرج كمن خبر الحياة أكثر مما ينبغي . كان صوته وهو يردد اسم ريمي قد خفف قليلاً من علاقته "بأبو كلبة "، واستقر السيد فيتالس على أنه ذلك الأب القاسي هائل الخطى الثقيلة وأنت إلى جواره لا تملك في هذا العالم أحد سواه , وبينكما القدر أكثر من العاطفة وذلك النوع من المآسي التي يعتادها الوجدان الطفـولي مع مرور الوقت.
الوقت فحسب هو ما كان ينقص السيد فيتالس ليملك الحق الكامل في اصطحاب ريمي الى الأقاصي وبذلك النوع من امتلاك الحق الأخلاقي في إضمار الرحيل . رجل ليس أبو كلبة غير أنه سيموت قريباً وصوته مبحوح...
ترك لريمي عالماً هائلا نراقبـه ونجابهه سوياً من أقصى قرية في ريف إب، ترك له كلاباً وقيتارة ومجموعة نصائح فيها لكنة فيتالس وهو ينطق اسم ريمي على ذلك النحو الذي يؤكد أن ريمي هذا سيتألم كثيرا,ً وسيجابه ما هو أكبر منه ضمن فكرة أساسية هي الضياع في عالم قارس. لم يكن ريمي لينتصر في أي حلقـة كما هو الحال في جراندايزر . ولم يتطرق أحد في المسلسل إلى فكـرة الخير والشر.
كان اللون الداكن المصاحب لضياع ريمي ولصمت غضاضته إزاء عدوانية عالمه المفاجئ الصامت؛ كان ذلك اللون هو ما يجعل طفولتنا تختبر ذلك النوع من التسلية القسرية في متابعة حكاية تترك كل مساء أثراً مقبضاً, ليس تضامناً إنسانياً إزاء شجاعة الطفولة , بقدر ما هو اختبار قاس لشحنات ألم ملتبس أثناء تصاعد أبخرة غريبة من أزقة لندن القديمة...
إنه ذلك النوع الخطر من تعريض الأطفـال لفكـرة الرضوخ النهائي لعرض واقعية الحياة من خلال الفن, الواقعية المعاشة كما هي بلا مزايا للخير أو للشر.
واجهات البنايات صامتـة. وكان ريمي قد عاد للتو من مجابهة ألم ما تبقى من كلبه الذي أكلته الذئاب . وينتهي صف البنايات ذاك بمخفر للشرطـة، وثمة شرطي صارم يصرخ في وجه ريمي. على أنه لص وريمي يحدق بلا شجاعة ولا دموع , بينما يخبط الشرطي على الطاولة متوعداً: لقد وقعت في قبضة شرطة لندن.
رغم حصوله آخر الأمر على أم بحجم السيدة مليجم إلا أن سيرة حياة إنسان على شاكلة ريمي , كانت أبعد ما تكون عن عروض التسليـة أو التمثيليات الهادفة؛ إذا كان بعيداً عن أي عرض مشوق بقدر ما كان قريباً من كل ما هو عميق وضائع في أعماقنا, كان عرضاً قريباً من وجلنا الملتبس...

وفي كل يوم لم يفكر طفل قروي منا في تخطي ريمي ولا جدوى الاستمرار؛ إذ لم يكن لأحدنا بعد المغرب سوى ريمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق