الجمعة، أكتوبر 08، 2010

اليهاري.. خطُّ أحمر

محمود ياسين


هذه القراءة ستكون جربت نوعاً ما من جهة أن مثقفي قرية اليهاري سيقرأون عن تجربة يعتقد بعضهم أنها كانت تجربة مؤلمة وشمولية ألحقت بهم أضراراً لها علاقة بالحرية وكيف أنهم عاشوا زمناً كمواطنين في ما يشبه جمهورية إسلامية تم بناؤها في قرية على سبيل التجريب..
في العام 2008 قال عبدالرحمن الحبري في أحد المقايل: إنه كان يريد الخير وأنه لا ينكر دور الدافع الإنساني في محاولته خلق طباع ونظام أخلاقي للقرية كمركز الدائرة الانتخابية التي فاز بها في ما بعد..
أخبرني أحدهم- وهو ناصري عاش أياماً عصيبة في اليهاري – أن هذا الاعتراف ليس كافياً وأنه لا يدري من عليه دفع ثمن إجباره على الصمت أثناء إهانة وشتم شخص جمال عبدالناصر...
في كل لقاء يتبادل مجموعة من مثقفي اليهاري ذلك النوع من أحاديث ما بعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية، ويحيلون على تجارب القسر في تاريخ تلك الدول على أن اليهاري خضعت لما يشبه تجارب النظم الشمولية في دول المنظمة..
يدور الحديث من أوله إلى آخره عن: كيف قبلنا بكل ذلك القهر، ابتداءً من صلاة الفجر جماعة إجبارياً وانتهاءً بتحديد حجم وشكل المشاركة في قريتهم... ومن هو الشاب الجيد ومن هو الفاشل، ضمن خلق هوية وإلصاقها بحياة كل شاب، رضخوا أيامها وانصرفوا الآن للبحث في مثالب التاريخ الإسلامي وعمليات الاستقواء بالحق على وجه التحديد، مستعرضين شيئاً من حكايا تاريخية لها علاقة بعمليات يطلقون عليها (قتل جماعية) على غرار ما حدث لبني قريضة... يقوم عبدالكريم السماوي بسرد تفاصيل تنفيذ حكم سعد بن عبادة وكأنه يسرد تاريخ أجداده وما تعرض له قومه.. هل يشعر عبدالكريم أنه تعرض لعملية إبادة من نوع ما.. مع أن حكم سعد قد صدر في محكمة السماء العادلة.
وهو على خلاف الباقين.. لا يتندر عبدالكريم باختيار القادة الدعاة الذين من بينهم الأخ الأكبر لعبدالكريم. لا يندر باختيارهم للقرية رائحة أقرب إلى رائحة مسجد أو قسم داخلي.. ولا يعنيه كثيراً أمر تحويل فتيات القرية من أروى وحليمة إلى (أم البراء- وأم مالك..! الخ).
هو أيضاً لا يدين إجبار المراهقين على إبقاء مسجلاتهم مفتوحة على أشرطة الأناشيد ومحاضرات القطَّان... إنه منصرف لما هو في نظره أعمق بكثير من رثاءات ليبراليين لسنوات من حياتهم أجبروا فيها على الحياة تحت تصرف الدعاة، وقبل بعضهم لعب هذا الدور..
هو يفكر كثيراً في الأمر على نحو انطلوجي صرف، لقد جره البحث عن سبب اغترابه المبكر في اليهاري إلى انتظار إجابات عميقة وشافية عن معنى الوجود برمته، ويقوم بذلك بصبر وانهماك غالباً ما يجيده بيت السماوي دون غيرهم ضمن نظام أخلاقي صارم تمكنت فكرة الانتماء الإسلامي المتدين من تحويله من مجرد (طبع أهل المدرسة- بيت السماوي) إلى ضمانة لسير أمور التنظيم وأمور القرية كما يجب.
ينتمي عبدالكريم لأسرة عرفت بالحذاقة وتمحيص الأمور، بدون رغبة تذكر في المباهاة والزعامة، فأصبحوا بذلك بطانة الحاكم الفرد عبدالرحمن الحبري الذي كان مدفوعاً بقوة طبعه الذي يفسره لذاته على أنه دور تاريخي في لحظة زمنية يقوم فيها الحق لهذا العالم- كان يختم أحاديثه وخواطره الأشبه بتوجيهات دستورية بمقولة- الإسلام قادم لا محالة..
رجل محتشد في بداية الثلاثنيات.. ابن عاقل القرية وثريها يريد تحويل الهياري إلى نواة لنموذج مثالي يصلي فيه الأطفال فجرهم حاضراً ويتصرفون بعزة أثناء دفاعهم عن الإسلام واستعدادهم للتضحية في سبيله.
أراد الرجل نموذجاً مصغراً لدولة إسلامية فيها قباب وخزانات مياه وغض بصر وشجاعة، حتى أنه تدبر أمر تمويل إدارة يوم اليهاري منذ أجهزة التسجيل الموصولة بفيشات الكهرباء وتزعق حين يتم تشغيل مولد الكهرباء فجراً... تزعق المسجلات آلياً إلى جوار كل أذن نامت على إيقاع كلمة الأب: الإسلام قادم لا محالة.. واستيقظت على صوت النشيد في جهاز التسجيل: هو الحق يحشد أجناده..
في كل حوار مؤخراً وبعد رحيل عبدالرحمن من اليهاري إلى مدينة إب يتحدث عن تجربة (فيها وفيها) ويصل مع الجميع.. جنود الدعوة القدامى والمثقفين الذين لاذوا بالصمت أيام تجربته الإسلامية. والصحفي الذي قال له يوماً: اليهاري قرية مغلقة. ويصل مع ذاته أيضاً إلى ما يلائمه.. حتى أنه يفهم وينفتح ليجد عذراً لماضيه وهو متقبل رأي طلبته الذين أصبحوا الآن حداثيين، متعمداً أسلوباً غريباً في جعل الإسلام حالة ديناميكية من نوع ما.
وكأن هذه الشكوى من تجربته القاسية وما ترتب عليها من أضرار نفسية.. هي أيضاً كانت هدفاً من العمل الإسلامي، وهو تربية المجتمع على التخلص من أخطائه أولاً بأول من خلال تعريضهم لخطأ سيقومون في ما بعد بنقده.
كان عبدالرحمن نموذجاً حياً للديكتاتور المستنير.. الذي يرعى أمر الجميع ويحاول إيجاد حلول جذرية لمشكلاتهم، وكأنه عمر يتجول في الليل بكامل صرامته ليطمئن على أحوال الرعية..
حتى أنه كان يسأل الطالب المتأخر عن طابور المعهد: هل تناولت إفطاراً جيداً..
أراد كل شيء في مكانه وإعادة تصحيح ما في القرية قبل الإسلام عبر عملية عزل كلية لمشائخ القرية التقليديين، وكأنهم في الإقامة الجبرية كأعضاء في المؤتمر الشعبي العام لا يجرؤ أحدهم على التجول في اليهاري وفي يده نسخة من الميثاق الوطني.. حتى أنه أقام عرساً مهولاً لبائع متجول طيب القلب وجعل فرقة من ضاربي الطواس والمرافع يضربون في موكب الرجل، وألبسه شالاً كان المشائخ وحدهم من يرتديه.. كان ذلك أروع ما حصل لقاسم القحطة، موكب مهيب ودسمال شيخ، وكان فرحاً للغاية كأي رجل وصل إلى الستين ولم يشم رائحة امرأة..
هل كان ذلك قاسياً؟ وأية مقاربة من هذا النوع صالحة في تجربة قاسم القحطة، الذي كان سعيداً للغاية دون أن يدري أنه مجرد رسالة وأنه عينة تجربة اجتماعية بعناية أريد لها أن تكون بمضامين إسلامية..
لقد أراد عبدالرحمن أن يُفهم المشائخ أن بوسعه حمل أقل الناس شأناً إلى فخامة ما في المشيخ، وأن يُلبس أقلَّ الناس شأناً الدسمال الذي لو ارتداه رجل في خمسينيات القرن الماضي لقام الشيخ بزجِّه في سجن الدار..
لكن الحادثة مرت دون أن يمعن المشايخ في فحوى الرسالة، بسبب أنهم تخلوا عن الدسمال قبل زواجة القحطة بزمن.. ولم يفكر القحطة في تلقين أحد أي درس، وكانت واحدة من تجارب عبدالرحمن التي اضطر في ما بعد لشرح أبعادها وأهميتها..
ولم يفطن أحد لفكرة أن قاسم حظي بتلك الزواجة التاريخية وبذلك اليوم السعيد في حياته بسبب كونه أقل الناس شأناً، وتلك هي القسوة... وانتقلت هوية رعية اليهارى.. إلى دأب في مقاربة أخلاقيات عبدالرحمن وأراد أن يشبهوه- حتى في الحذاقة، منتمين عن علاقاتهم القديمة بجوازات سفرهم وتباين حظوظ المغتربين، وتحولت الغربة ذاتها إلى استقرار يومي إسلامي حاذق، حالة وكأنها ماضوية، وبقي عبدالكريم اليهاري المغترب الحاضر الوحيد باعتباره مغترب الدعوة الذي يعود كل بضعة أشهر بتبرعات كافية لتغطية نشاط الدعوة في كامل الدائرة الانتخابية.
ويمكن هنا التأكيد على أن أهل اليهاري تجشموا جميعاً عناء الحذاقة والجاهزية للرد على الشبهات في مقايل القرى المجاورة، وكيف فوتوا الفرصة على واحد مؤتمري في الغالب.
وعقب صلاة العشاء وفي الطريق إلى قبو المعهد أو بيت عبدالرحمن يتبادلون تقارير أنشطتهم في تلك القرى- وتظهر كلها كيف ردوا على فلان- وكيف فوتوا الفرصة على واحد مؤتمري في الغالب.
اهتم عبدالرحمن بكل شيء.. أدوار الناس ومساحة التثاقف وإعانة فقراء القرية من خلال جمعية الإصلاح.. الطلبة الذين يتم قبولهم أو رفضهم في الجامعة، من يتزوج من، ومن تكون لمن وكيف أنه على القرية أن تكون إسلامية.. وكيف ينبغي للرجال الذين يعتمد عليهم أن يكونوا جاهزين لإقناع القرى المجاورة بما يعده العمل الإسلامي للمنطقة برمتها.. وكيف أنه ينبغي على هؤلاء الرجال تفنيد شائعات القرى ذات الطابع السخيف والنكات البذيئة التي تدور حول صفوية اليهاري..
كان بوسعه قيام الليل والمكوث في بيته أسابيع لقراءة مجموعة كتب واستنباط مفاهيم، مطمئناً لكون القرية خارج نوافذ بيته قد تعلمت مع مرور الوقت كيف تتصرف بشكل صحيح أثناء نومه..
هل يؤذيه هذا الكلام، هو يعرف أنه كان ديكتاتوراً كأي رجل يريد الخير.. وكان صارماً اعتبر مجرد محاججتي له بشأن (اليهاري قرية مغلقة) شجاعة غريبة.. تساءل عنها بصدق. لماذا يتحلى بها الشعراء والأدباء. ذلك أنني كنت أكتب شعراً تورطت في إحدى قصائده في النيل مما اعتبره عبدالرحمن أحد أهم الثوابت الإسلامية، وهو الحديث عن المرأة والإسلام، هو عملية فصل بين الجنسين.
وأن تنشر القصيدة في صحيفة (التجمع) تحت اسم (بائعة الملوج) فهذا يعني تجاوز الثوابت من أحد التلاميذ ونشره في صحيفة ماركسية.. فانتدب عبدالرحمن صاحبي الشاعر محمد البساطي للرد والذود عن الإسلام..
كان مطلعها هكذا:
أيصنعك الخبز أم تصنعيه.. ومن منكما قد كواه الحريق..
فرد البساطي:
أيكتبك الشعر أم تكتبه.. ومن منكما في الظلام غريق
لست هنا وكأنني أكتب أحد فصول (رياح التغيير في اليمن) وكأنني أحد الثوار القدامى يسرد نتفاً من طرائف ومساجلات الشعر بقدر ما هو الحديث عن سنوات قرية اسمها اليهاري خضعت لتجربة شمولية صارمة وكنت أنا من قرية الدنوة المجاورة.. التي يفترض بها – وفقاً لـ عبدالرحمن- أن تمضي على خطى الفقيه سعيد بن صالح ياسين.. الذي كان مصلحاً دينياً، ودليلاً على صوابية تغيير حياة الناس من باب المسجد، حتى أنه استهجن أن يدافع حفيد الفقيه سعيد عن بائعة ملوج..
في قصيدة عن قريتي كنت أردد: يا قرية الريح والانتظار... وتساءل دعاة اليهارى.. عن أي قرية أقصد.. فحاول الشيخ محمد قائد علوه إنقاذي وإنقاذ الموقف بلهجة ذكية منتهكه.. قائلاً: محمود يقصد القرية الإسلامية.
"كان الشيخ محمد قايد يصر دائماً أن يوصلنا إلى قريتي بنفسه ذلك المساء ضحكنا في السيارة- ضحكنا بشدة من فكرة (القرية الإسلامية) التي أنفذت المقيل" ذلك أننا نضحك عندما نكون وحدنا لأننا ساعتها فقط نستعيد شخصياتنا الحقيقية.
نصحتهم مؤخراً بإلحاق الأذى بقادة الإسلام في القرية، فربما يشعرون بالارتياح.. ولكن كيف؟ القادة إما الأخ الأكبر أو ابن الخالة أو زوج الأخت، ثم ما هو الضرر أصلاً؟ هل يمكن اعتبار أن يدفعك أحدهم لصلاة الفجر دفعاً أمراً مضراً؟ اكتفوا مؤخراً حقهم في السينما والأغاني وحتى المهاوزة... غير أنهم حرموا من كل شيء وتم استخدام عائلاتهم كعصى غليظة للعقاب..
وهل أمر النيل من شخصية جمال عبدالناصر على درجة من الضرر؟ ربما يكون الناصري علي عبدالله قاسم علوه متألماً من إجبارهم له على الصمت إزاء تلك الشتائم، وفي ذلك ما هو شخصي مهين للكبرياء.
بقية الأمور تحملتها قيادة التجربة الإسلامية في اليهاري لسبب بسيط وهو أنها حدثت إبان قبضتهم الحديدية.. بما في ذلك آلام تجربة حب فاشلة أو رفض إحداهن الزواج بشاب يعتقد إلى الآن أن رفضها جاء في ختام لقاء تنظيمي خلص فيه المجتمعون إلى أنه (لا يصلح).
كان في التجربة أناس حصلوا على وجود –إسلامي- لكنه وجود لم يكن متاحاً بغير الحركة. تقدير في القرى المجاورة وخطايا نباهة وردود حاذقة، وكنت تدخل اليهاري فتسمع نشيداً أو محاضرة، أو إعلاناً عن محاضرة وتلمح حركة نشطة لشباب يعدون لوصول صعتر أو مجموعات توزع مهام استقبال الزنداني بما في ذلك توزيع الكلاشنكوف وكيف ينبغي حمله أثناء وصول القائد المؤسس إلى واحدة من أهم نماذج تجربته ودعوته الثلاثية عن (الفرد المسلم- البيت المسلم- المجتمع المسلم).
هنا جماعة الاستقبال وجماعة الحراسة وجماعة الطعام.
وأنا لست بصدد الذي مر بتجربة مع الإخوان المسلمين وخرج على الناس ليفضح جماعة سرية، كما يحدث في الأفلام أحياناً، فلطالما كانوا أصدقاء جيدين وعلى درجة من المسؤولية.. ولم تكن مربعات تمدد التنظيم في اليمن مشابهة لليهاري إجمالاً، ويمكنني الجزم هنا أن التجربة تعود لشخصية الحبري أولاً وأخيراً، إذ منحته الحركة الإسلامية خدمة ملائمة لممارسة وجوده بلا هوادة. فلم يكن أحد قبل الإسلام ليجرؤ على تسديد هدف في مرمى عبدالرحمن وهو يرتدي الـ"تي شرت" ويلعب كرة القدم.
فتى من الطبقة المتوسطة في منطقة مشايخ تمكن بتجربته القاسية من جعل الرعية لأول مرة يفوزون على المشايخ في الانتخابات..
هو الآن يسكن مدينة إب -قرية اليهاري بلا أب من أي نوع- غير أنها لا تدري ما الذي تفعله بهذه الحرية.

نشرت في العدد 1 مجلة صيف 2009

هناك تعليق واحد:

  1. رائع هذا المقال كروعة قلم كاتبه .. لكن هذا المقال تعرض لحقبة تلاشت من تاريخ قرية اليهاري وبالتحديد حقبة عقد التسعينات.لكن الناظر لأحوال قرية اليهاري اليوم يلمس التغير الجذري المتثمل بعدد من القيم المدنية المثلى لعل أبرزها ثقافة التسامح والوسطية والانفتاح على الآخر وإعطاء العقل مساحة من الحرية .. ولا نتستغرب ان قلنا ان قائد هذه القيم المثلى هو أ/عبدالرحمن نفسه _ حفظه الله _.

    ردحذف