الجمعة، يوليو 30، 2021

هذا الفخ اللعين


محمود ياسين

منذ ألقيت أول قصيدة كتبتها وأحسست أن من حولي منبهرين شعرت أن عليّ أن أبقيهم كذلك.

كانت القصيدة حينها تحكي أنني في الوغى سأكون هزبرا وفيها بعض من عنترة بن شداد. كنت في الصف الثاني إعدادي وختمت القصيدة بما يشبه التحدي الذي سرقته تماماً من عمرو ابن كلثوم : “الا لا يزنطن احد علينا فنزنط فوق زنط الزانطينا”، وغمزت للذي يحبّ المعلقات ان هذا التلاعب في الكلام يقع تحت خانة ” الخصوصية اليمنية “. لا أذكر الى الآن ممن سمعتها بالضبط من تلفزيون صنعاء. أذكر فقط أنه كان يرتدي قبعة فوق البدلة ومصاب بالحازوقة، أو تلك السعلة المرتدة. 

انبهروا كالعادة وبقيت أشعر وكأني أجمد نظراتي واترك شعر راسي بلا تصفيف لأبدو لنفسي عميقاً ولا مبال مثل الشعراء، لكن في حقيقة الأمر هو كسل معروف عني لدى المحيطين بي، وكانت امي تحدق في جلستي الكسولة مرددة حديثا لم يرويه أحد غيرها “إن الله لا يحب العبد السبهلال”. 

لم ترقني عبارة “السبهلال” تلك فرحت امشط شعري واتحدث عن قيم العمل والنشاط ولم يصدقني أحد او ينبهر فعدت للشعر: 

“أيا قرية الريح والانتظار، مضى العمر واستنزفتنا المعاول 

نقاتل وجه الشتاء الغضوب، ويبقى الشتاء ونبقى نقاتل” 

قصيدة طويلة، وعنها تسائل  ابن عمي حسن الحاج، وهو كان مرجعية ادبية تلك الحقبة فهو يعمل في مكتبة في السعودية. تسائل : من تقصد بـ قرية الريح، الدنوة ؟ استاء كثيرا وعلا صوته ضدي في المجلس بينما كانت الريح تطوح ستائر النوافذ. قال لي إنه كان يفترض ان اقول: قرية الحضارة. اعتذرت لحسن وفي المساء استجمعت رياح الليل قوتها واستعرضت عصفها ما بين البيوت. من جانبي كنت أتدرب على تلك العلاقة الغامضة المتوجسة بين الكاتب والمكان. شيء مختلف نقلني من العيش على وقع إبهار الآخرين إلى تبادل الاسرار مع الريح وتلك النغمة المتواطئة بين الصوت والأعاصير التي داخلي، نرقص معا وأمضي الليالي على إيقاعها. الى الآن علقت في تلك الرقصة حتى حين لا يعود هناك من ريح يهبّ في عالمي أجدني أعتمد على اعاصير نفسي حتى فقدت التوازن . 

هي مقايضة جيدة، فأنا الإبن الأوسط في العائلة، ومن هذا حاله يتغابى إزاء استبعاده من التدليل الذي يناله الابن الأكبر والأصغر. بتلك الوسطية والاعتيادية في كل شيء كان علي أن أبهر من حولي، و أتميز على نحو أو آخر. هذه ليست شكوى، إنه بيان مقتضب لم يطلبه مني أحد.

هكذا وقعت في فخ الكتابة.
أدرك الآن لماذا قال كمبروفتش: اقرأ ما اكتب، انني متهكم محرض ماجن وبهلوان، لا يسعني غير ان اروق… 

ومقولة كمبروفتش هذه استحضرتها ليشهد معي الروائي البلقاني على حتمية أنه لا يسع أحدنا إلا ان يروق، وإن كان مزاجي اقرب لانطواء حلزون على نفسه لا يريد أن يلمسه او ينبهر به احد. 

في “الدنوة” تعلمت الوجود على حساب الانفعالات التي كانت تمدني بها الريح واغواءات دفئ الدهاليز في الشتاء، وكنت اجيد تحويل ذلك كله إلى كلمات 

بلا ذاكرة وبلا نوافذ متحررة من مخاوف الطفولة والسياسة، بلا ملامسات أولى في ذروة الصقيع. 

يجدر بك العودة لكتابة القصيدة الأولى كل ليلة وحيدا في صنعاء الا من أعاصيرك التي اقتلعتك من الوجود الممكن حيث كان بوسعك جني النقود وبناء دورين في قرية الحضارة عوض النضج، إذ يمكنك أن تنضج لو لم تقع في فخ الكلمات، الكلمات وهي تبقيك ذلك الطفل الذي يرفض أن يكبر ، ووحدهم الأطفال يظلون مندهشين على الدوام حتى وهم يعترفون بأشياء عادية لا تهم أحدا، لكنها طريقتهم وحيلتهم في البقاء . 

أظنني لا زلت حتى في هذه على قيد العمل في الإبهار ، لكن من صنعاء حيث لا ريح قادمة من كهوف الأبدية وحيث السطح لا يخصني ولا يقدم لي ذلك الليل الذي أنشده، حتى الكلب يعوي في الأسفل فهو يفعل على سبيل التبطل، وليس ذلك العواء الليلي من قلب العتمة وتوجس الكائنات . 

لكن ثمة ما يكفي من هواجس للإلهام وايمائة لحسن الذي اكتهل في الغربة ولم يتوقف بعد عن إبداء امتعاضه من الإساءة لقريتنا بأنها قرية الريح، 

وأظنه لم يتوقف الى الآن عن هز رأسه ممتعضا، وأقول: حسنا، انها قرية الحضارة، لكن رياحها لا تكف تلاحقني كل ليلة تحاول اقتلاعي من حيث الوجود في اللامكان .

لم يتغير شيء، لا زلت ذلك العبد السبهلال، غير أن اعاصيري لم تهدأ بعد.

*المقال نُشر في موقع درج

الأحد، يوليو 11، 2021

الصمت استسلام للخرائب


محمود ياسين

نتذكر بالكتابة ما يسعنا نحن الماضون لغياهب أواسط الأربعينات.
يخبرني صديقي البارحة أنه اكتهل دون أن يدري، وأخبره أن الكتابة حيلتنا الأخيرة للإفلات من الزمن، أكتب فتتوقف الطواحين في رأسي، وتنزوي تلك الضغائن الصغيرة بخجل، إننا بالكتابة في حالة مران على التعافي، وإيجاد ضمانات للانهيار الآمن.

نتقوض لنكتب حالة إعادة بناء لا يكف عن كونه أقل كمالًا، ذلك أن الصمت هو استسلام للخرائب، والكتابة رقص على تلك الخرائب. 

لو لم أكتب لبقيت مضطغنًا على مدرس الرياضيات في ثالث ثانوي للأبد، لو لم أكتب لقتلت شخصًا ما في هذا العالم، لو لم أكتب لانبعثت مني رائحة عطن الحياة، لو لم أكتب لما حظيت بذلك الإعفاء من شفرة الحلاقة ومن العطر الفرنسي ماركة، ومن المهاترات والترّهات، ومن ضروب الأداءات المرهقة ليتقبل أحدنا نفسه. 

يا للكتابة، يالها من حيلة سجين مشاغب في هذا الوجود المضجر، يالها من ارتجال نبي يومي على مقاسك وفي طريق الكراهية وعلى ضفاف الرؤى وفي قاع الهاوية، بالكتابة فحسب تهزأ من الهاوية ومن ضروب ضعفك ومن كل الذي يعتقد أنه ينقصك وأنك بدونه لا أحد. 

استنتج كثير من الشبان في صنعاء معادلة وجودية لائقة وقد حصلوا على شفرة ترويض الكلمات.

كنا بلا ملامح ومجردين من أدوات ومزايا المنافسة على موارد النفوذ في صنعاء، لسنا أبناء مشايخ ولا ورثة ثروة ولا نحن عسكريون أو قادة أحزاب، وبالكتابة أصبح كل منا كل هؤلاء، مضافًا إليهم حسّ الكبار المتجولين في ذاكرة العالم من روائيين وتنويريين بذاك القرب من الذات. 

  وبقينا هنا في صنعاء، والذين اجتذبتهم المنافي لم تسقط عنهم صفة الكُتّاب، لكنهم قد حرموا في السنوات الأخيرة من الكتابة بوصفها التكريم والمقابل الوحيد للناشبين مخالبهم في التراب.   إنها تمنحنا التعريف الملائم لما نحن عليه، وتقدح لنا نغمة مركزية لإيقاع صنعاء الأخير. 

بالكتابة فحسب أنت متعذر على الالتقاط والاستحواذ، وبالكلمات تهمس تميمة الإفلات من كل لعنة، ومفتاح الفردوس الشخصي وأنت تبتكره وتتذوقه من إعادة ترتيب جحيمك الذهني ومن تراتبية عواطف الحب والكراهية. 

الكلمات فحسب، تذكرة اليانصيب اليومي الكبير، إنك تربح كل يوم وتبددها كل مساء، وتقامر وتجرب وتحصل على "رمية النرد التي تصيب في كل مرة".

أصدقاء توقفوا عن الكتابة مقابل مزايا الصمت أو نجاحات مادية من نوع ما أو بسبب خسائر غير قابلة للاحتمال، وأسأل: كيف يحتملون هذا الوجود المفرغ من غواية الكلمات؟ أي شيء قد يمنح الرضى بخلاف الكتابة الأكثر شفاء وضراوة من الجنس ومن غلمة المنصب ومن العطلات والرحلات ومن عطور وصابون الاستجمام.

ثم ما الذي قد يكون أشد ثقلًا وغير قابل للاحتمال مثل الوجود دون مونولوج داخلي، وذلك التحفّز لانتزاع البرق بالكلمات وتحويله بيدك لسوط يدفع الحياة للتحلّي ببعض التهذيب. 

لا ينشد الكاتب ألوهية مرتجلة، بقدر ما يبحث عن الإنسان الذي يتسرب منه كلما تسربت الكلمات، وكل ما فقدت الكتابة هيبتها وسحريتها في حساباته. 

مدراء التسويق ليسو أقل من غواية الكاتب ومزاياه الواقعية، ومن منهما أكثر حظًا وجدارة بالاحترام، لا لا؛ كل ما هنالك أن الكتابة ذاتها هي ما تحول بينك وبين أن تتحول لمادة قابلة للتسويق.


أن يظل لدينا موقعٌ كهذا الذي لم يرقني اسمه كثيرًا


محمود ياسين

أن يظل لدينا موقعٌ كهذا الذي لم يرقني اسمه كثيرًا، لكنه عمليًّا قد تواجد كما ينبغي، وحيث تجد رفقتك من الكتاب في موقع إلكتروني معني بالمعرفة والثقافة ومقاربات التفكير الحر، ومن عاصمة ما من صحيفة تصدر فيها بعد.

للحرب مرافعتها التقليدية الصارمة واليقينية بشأن الحريات. يبقى كل شيء مؤجّلًا إلى ما بعد الحرب، غير أن "خيوط" هذا، هو شكل من مرافعة ذهنية ضد الحرب. وكونه يدار من صنعاء، فهذا باعث على التفاؤل الحذر، وإمكانية التملص والمغافلة بمساحة حرية مسروقة من زمن الحرب والصوت الواحد.

لا أدري كيف أخبرهم أن "خيوط" وحده لا يكفي، وأن الصحافة ليست فحسب، مجرد حريات تتهدد تماسك الجبهة الداخلية، وأنه حتى أثناء الحرب يجدر بالسلطات التخلي عن هذه الفوبيا، وعن استراتيجية الصوت الواحد.

تتملّى واجهة كشك كان يعرض كل الصحف التي كتبت فيها، وتشعر أنك كنت هنا تتنقل بين الأدراج، وأنت عمود صحفي في أخيرة صحيفة، ولقد جربنا أيامها أنماط الحريات وكنا جيدين، ووقعنا في جملة أخطاء ولم نتوخَّ الحذر بشأن سلامة الدولة، لكن مؤخرًا تتملى مطبوعات الصوت الواحد، صحف ومجلات تتداولونها أنتم وحدكم وهي قد صدرت عنكم، فما الذي قد يترتب على هذا؟ أي معركة إعلامية هذه ومع من ولأجل ماذا؟

حسنًا، الفضاء الآن مكتظ بالمثاقفة الإلكترونية، ولقد منح الإنترنت ملاذًا من قمع السلطات، وفرصة للحمقى أيضًا.

يأخذ هذا الموقع شكل لقاء بين أصدقاء الثانوية، "خيوط" الذي أسّسه ويديره مجموعة الرفقة القديمة من أيام الصحف الورقية، وهذا يجعل التواجد هنا أشبه بإنعاش الذاكرة، والتأكد من أننا لا نزال نملك صنعاء. يحيل هذا الاستدعاء الحميم والكتابة عن الرفقة وحفلة الأصدقاء القدامى، على مقاربة فكرة ملحة الآن، وهي انتقال الصحافة والنشر من صفحات الورق الأملس ورائحته، إلى الفضاء الإلكتروني، وكأنك تكتب على الماء أو تتحدث لاحتمالات لا منتهية؛ تقول ما لديك وتمضي، دون أن تمتلك تلك الحالة من التواصل المسبق بقراء محددين تعرف مزاجهم وتطلباتهم، وتحاول أو لا تحاول تلبية التوقعات. أظنني هنا كمن انتقل لبيت جديد أثّثه رفاق قدامى. ليس آمنًا تمامًا، لكنه يمنح جهة نطل منها، ليس على من نعرف مسبقًا، لكنه فرصة لتبادل المعرفة عبر الشبكة، في زمن يكاد فيه الجهل أن يكون إلكترونيًّا هو الآخر.

السبت، يونيو 05، 2021

الحياة تكافئ المولعين بها


محمود ياسين

مات رجل ثري للغاية ، لم يبحثوا له عن ذكريات بل انهمكت العائلة في البحث عن ارقام خزنة النقود وأكوام اليورو الذهبي أو الوردي ولقد حصلوا على الرقمين معا ، مفتاح التسلسل ورقم " 600" مليون يورو .
كان لا يكف عن التبرم والإسهاب في الحديث عن بواسيره ، ويصغي الجميع لحكاية البواسير الثمينة ويصفون نزق طباعه وبخله ب" الحكمة " 
مات وقد تأكد من إغلاق خزنته تاركا حياة لم يعشها بقدر ما أمضاها كصخرة ومانعا بين الآخرين وتذوق الحياة .
ماتت متسولة على الرصيف ، ومات فيلسوف ما لا يحضرني اسمه ولقد مات الكثير من الهنود مؤخرا ولم يجد بعضهم ثمن الحطب الذي يحترق به كجثة لم تعد تخص أحدا . 
عش ياصديقي ، ولو ابلها وبلا افكار ملهمة ولا احد يجدك لامعا أو جذابا أو حتى يحبك .
عش متوسط الدخل أو معدما حتى فغدا ستمنحك الحياة مؤونة كافية للمضي كونك احببتها ، الحياة تكافئ المولعين بها ، مثل امرأة جميلة وبلا شفقة وتقدر الجسارة . 
عش فلقد مات أناس لا يؤرقهم شيئ مما يؤرقك ، ومات أناس تبدو متاعبك بالنسبة لهم اقرب لهدايا قدر سخي ، ولقد توقفت قلوب كثيرة عن الخفقان بعضها مليئ بالخير والبعض لم يذق طعم الحب ولم يخفق يوما بشكل مضاعف ولأسباب عاطفية . 
عش الآن ، اذهب إلى شارع مازدا وتناول وجبتك من الزلابيا مع كاس شاي حليب دون أن تفكر في ملامح شخص ربما تحسده وهو يحتسي مشروبا متعاليا على الشاي الذي لديك ويلتهم الكافيار في ملهى بمونت كارلو، لقد مات البارحة جالسا على مقعد البار وسقط الكاس من يده حتى أن أحدا لم يلتفت إلا بعد مضي خمس دقائق ، مات سكتة في صخب الحظ والتوقعات . 
عش بمتاعبك فهي تبقيك قيد الحصول على سبب للحياة ، عش بالقليل وبالكثير ، بالزحمة وبالألفة وبالوحدة ، 
لاشئ منتظم وقابل للفهم ، ويمكنك التحديق في ملامح رجل الأعمال الأمريكي صاحب السيارات الكهربائية ومشاريع استعمار الفضاء ، حدق في ملامحه لترى الموت شخصيا ، رجل قارس وكأنه روبوت ترجل من ذهن صاحبه المبتكر وتحول لقيصر تقنية لا يعرف الرحمة ولا يذكرك حتى بفكرة النجاح ، ياللشناعة أن تنجح على طريقة ماسك أو أن تحيا على منهج بيزوف أو أن تموت بأسلوب فقير هندي باغته الفيروس ولم يكن قد تناول إفطاره بعد . 
عش الآن، قريبا من انفاس طفلتك النائمة ، أو رفقة ستاندال وتستبدله على الفور بجارثيا ماركيز كون الاول كان مملا ومتشائما بينما ارتجل الأخير واقعية سحرية بمقاسنا نحن الذين لا نحتمل وجودا بلا مخيلة أو مسرات بلا مخيلة ،نحن اتباع مذهب " دعوا الجميلات الفاتنات للرجال الذين يفتقرون لمخيلة " 
عش فحسب ، لا شيء حدث من أغلب ماتوقعته 
لقد كان أسوأ من الوقوع . 
سيجارتي الأخيرة ، نسمة هواء من النافذة تعيد تشكيل الدخان الذي انفثه في الفراغ ، تصنع منه دوائر ووجوها دخانية في مرايا الليل على طريقة البردوني ،ابتسم برضى أكثر الرجال حظا في العالم إذ اتواجد بكل متاعبي وتقلباتي المزاجية في عاطفة امرأة تحبني بلا كلل ،  واصغي في الصمت لقلبي وهو لايزال يحتدم 
ما الذي أريده بعد؟


الخميس، يونيو 03، 2021

الانهماك في نشوة التوقعات


محمود ياسين

كثيرا ماكنت أفكر عن الحالة والهيئة التي كتب بها مارسيل بروست جملته " كنت أجلس متوحدا بلا إحساس الأثاث ، ومن وضع غير منسجم لفخذي تتخلق امرأة " ، لطالما وددت رؤية الكاتب وهو يخبرني أنا شخصيا كيف يفكر وماالذي يتردد في وعيه ، وهل كان تولستواي وهو يروي كيف أن القائد سيتزيف كان ينام أثناء اجتماعات القادة الروس لبحث صد نابوليون عن موسكو ، هل كتبها وهو يرتدي تلك الملابس المزيج من رثاثة فلاح روسي ومهابة أحد الأقنان وقد وهب كل أراضيه للفلاحين ، كيف اتكأ دوستويفسكي على حافة طاولته وهو يحدق بعينين حادتين ويفكر في التهابات ذات الرئة منتظرا كوب قهوته من زوجته التي كانت تصغره بعشرين عاما واعتبرته طفلها الذي يرفض أن يكبر ، ياقة قميصه وحضوره الرمادي وكأن عالم ديستويفسكي هو بالأبيض والأسود وليس الصورة قبل الألوان ، ولربما فكر في عجوز وحيدة ترتعد بردا في شتاء موسكو وكتب الجملة الأولى من " الجريمة والعقاب " العجوز التي سيتقمص لها راسكيلونوكوف ويقتلها سرديا بينما كان قد فرغ للتو في  الحقيقة أن منحها البالطو الرمادي الذي كان يرتديه لتتدفأ به قليلا وانكشف هو لجليد المدينة وعاد إلى البيت يبصق دما ، هكذا ينقسم الروائي ويقترف القتل في  سردياته ويقتل نفسه في الحياة الحقيقية ليحيا كائن  آخر ، التبادلية والمواربة على انعكاسات المرايا بين العوالم المتعذرة والقابلة للحياة ،  الحياة الجديرة بالدفاع عنها على أية  حال وفقا لهيمنجواي قبل أن ينتحر  بدقيقة .
الاضطجاعة خاصة امل دنقل  " رماد السيجارة المتساقط على بنطلونه ، ثم كلماته الأخيرة وقد أعادت عبلة الرويني وضعية مخدته في المصحة ليموت باسترخاء في الغرفة "  8 ".
هذا الرجل يقارن نفسه بالعمالقة، أعرف أن أحدكم سيغمغم بهذا قبل أن يصغي لما اود قوله ، صحيح أنني أظنهم الرفاق ، لكن المهم هو أن هذا أنا وشيئ من هذا عندما كتبت لكم حكاية محمد الملاليني ورثاء بوابة الشيخ عبد الله ، اليمني في الحد الفاصل بين زمنين ليسا خارجه تماما لكنه يمني منهمك في نشوة التوقعات الجيد منها والسيئ ، بالثوب وكوته معلق في الجدار ويكتب تبادلا للهزء بين الرجل وماضيه وكيف حدث أن قتل رويدا ، يمني يشعل سيجارة ويتموضع في صنعاء أكثر أثناء المضي خلف حلمه السردي بالهروب إلى نيويورك في " ليلة نيويورك " ، في صنعاء وذاكرتي في بهو فندق سوفتيل ومع نكهة القات استعذب بقايا احمر شفتين " على حافة الكأس " ، رحلت أنا وبقيت فوهة دبابة تطل من تبة سوفتيل ومن جبل صبر تومئ المرايا وهي تضبب الوجود بين الموت والحياة . 
نحن هنا عالم افتراضي نجهد في جعله واقعيا أكثر ، بتبادل الصور والحكايا واغاني العسل والنوب وبأحلام الدهاليز واللقانة الصنعانية وبهذا الولع والتشبث بحياة ليست على مقاسنا لكنها كل الذي لدينا . 
بهذه الهيئة وهذا المونولوج اللوني أتخاطر معكم كل مغرب وقد هجرتكم آخر كل مساء ، بسبب العسس ومواربة الأوجه ورسائل الهواجس وكأنني وأنتم ديستويفسكي وماتيلدا " كنت وماتيلدا نهجر بعضنا للأبد مرتين كل أسبوع " .
هذا الآن أنا ، وقد مت موتا صميما البارحة لكن على طريقة البردوني : تموت وتحيا ؟ تلك إحدى غرائبي ، وعلى طريقته ايضا أنا " لص تحت المطر " كل الأبواب مغلقة في رحلة التيه والشتات لكنني في آخر الحكاية : وبدأت أحس بزوغ فتى ،،، غيري من مزقي يتكون .
أتكون بتواتر يومي لأبقى رفقتكم.

القوا التحية على صاحبكم محمود ياسين.

كذبات سعيدة


محمود ياسين

أسوأ اخبار الموت عندما يكون الفقيد في مثل سنك .
ترجع تفكر تشرب شاهي والا موش ضروري 
او يمكن تأخذ دش بارد ، لكن موش ضروري 
هناك مقترح تتصل بصاحب دار النشر وتعتذر أنه اتصل وأنت لم تتنبه ، لكن موش ضروري .
خطر لي الخروج للبحث عن بنزين ، لكن للمه . 
الموت علينا حق،هذا صحيح لكن بعضنا موش مستعدين ،ولما يموت صديقك القديم وتفكر تنشر تعزية ، ترجع تقول موش ضروري . 
هذي هي الحقيقة المباغتة ، فيها هكذا ما يأتي من خارج كل السياقات التي يمكنك ادعاء التحكم بنهايتها  
لم انشر رواياتي الثلاث بعد ،ولم اعتذر لاناس كثيرين لا اعلم على وجه الدقة من المخطئ أنا أو هم ، لم أتشمس على ساحل جزيرة مهجورة في الكاريبي ولم أتبادل النخب رفقة أصدقائي في المنافي ولم تذهب معا لمشاهدة الجزء الثاني من فيلم تيتانيك ، لم يصوروا الجزء الثاني بعد ولم يناقشوا الفكرة من الأساس . 
من صف ثاني وانا هامم ومهتم لأشياء لا اذكرها ، ومن ثالث اعدادي واناساهر ، ومن تسع سنوات ونحن عرضة لجملة ضلالات ذهنية لم يعد بوسعنا معها التمييز ما إن كنا لا نزال موجودين حقا وأحياء على وجه التحديد . 
وكأنه وبشكل مضمر يجب على الكهول وحدهم أن يدفعوا ثمن إقرارنا الجمعي أن الموت علينا حق ، هذه فكرة لامعة حسدت نفسي عليها لكن موش ضروري . 
عمر تلتفت صوب ماقطعت منه لتجده أمامك مجموعة كراكيب ،صور اصدقاء يحدقون صوبك بنظرة عتاب لا تفهم أسبابها ونسخ من مجلة العربي ووجوه لأبطالك الكرتونيين وهم نموذجك المتعذر على الموت ، مواقف وأعقاب سجائر ونساء يرفضن أن يسامحنك واضلاف دواليب ورؤوس ثيران مقطوعة في أعياد أضحى تركتها لك على سبيل الذكرى ، كراكيب من مهام مؤجلة وخطط فاشلة وديون وملذات في قيعان كؤوس ملقاة اسفل الكوم اللامتجانس والذي يفصح عن انسجامك الشخصي للغاية مع الكسل في حياة بقيت مؤجلة على الدوام .
أنا هكذا حظيت بوعد من القدر أنني لن اموت الا وقد زهقت تماما من كوني لم أمت ، وقمت بتحديد سقف زمني يتخطى المائة عام ببضع سنين ، على التزام في الآونة الأخيرة بالاعتماد على جهازي المناعي الذي اقترحت أنه كان لديناصور ، ديناصور وحيد نجى من النيازك وبقي يتجول في المنحدرات والغابات وانقرض بعدها على سبيل الضجر .
تعلمت اختراع كذبات سعيدة منذ طفولتي ، فقط على سبيل مغافلة الحقائق القاسية والمباغتة على غرار هكذا اخبار عن موت أشخاص كان لديهم أيضا كذباتهم السعيدة . 
تذاكر وتذهب بين المطر إلى سوق المنطقة لمتابعة سيناريو ريمي ، السيناريو الذي كان اقسى من طفولتنا ونحن نسمع المحقق بصوته الأجش يصرخ : ايها الولد لقد وقعت في قبضة شرطة لندن . 
لا كلاب لدينا ولا ناي نعزف به للعمر الجوال ونحن بقينا مع عائلاتنا لكن لكل منا سيد فيتالس يعلمه العزف ويكتشف طيبة قلبه بعد أن يفقد طريق العودة إلى البيت . 
احزاب صحف تجمعات تذاكر سفر معجبات وخصوم رماديين وخصومات ساذجة ومعارك غير عادلة . 
ونموت وفقا لهيمنجواي " لا يتسنى لنا الوقت الكافي لنعرف كيف .
حتى هذا المنشور هو موش ضروري.