الخميس، يوليو 11، 2013

لا كلام على طعام


محمود ياسين

نكتب دون أن يتسنى لنا الوقت أو الطريقة للإمساك بأذن الفساد الجديد، أنا أسمع كثيراً عن دور الصحافة، وكيف أننا أصبحنا بعد الثورة مخيفين لأي فاسد، وكيف أن الصحافة أصبحت حالة ترويع لرجال الدولة، غير أن حدساً يعمل بإلحاح، ويشبه الوسواس القهري، يتحدث عن رجال يسرقون في غاغة هذه الأيام، وتجوس أصابعهم في ظلال وعتمة وغفلة الناس عن مراقبة اللصوص، أثناء انشغالهم بالكيفية التي يعمل بها عبد ربه كرئيس، ومن يحالف ومن يقرب أو يبعد، وماذا يقوم به الرئيس الأسبق، وكيف يظهر الحوثيون قوتهم، وكيف يتجمهر الحراك، بينما ينهمك لصوص حاذقون في لملمة الموارد، دون أن يتصيدهم أحد.

الصحافة تمسك ما يفلت من أحداث السرقات المثبتة بوثائق وما شابه، وهي أخطاء بعضها لا يتعدى ملايين الريالات، بينما لا ندري شيئاً عن تدفق الغيل الكبير، أو كما يقولون في البلاد "أين القصيص الكبير؟"؛ أقصد ثمن النفط والمساعدات والضرائب والجمارك. ذلك أن موارد هائلة كان الرئيس الأسبق المتصرف الأول بها، ولطالما اتهمناه بأشياء كثيرة وبنود صرف شخصي على غرار "الاعتماد الإضافي"، فأين ذهب الاعتماد الإضافي؟ وأين ذهبت كل تلك النقود التي كان يحتكرها مجموعة قادة، من نفقات الجيش؟

حتى إننا لا نتساءل عن نفقات الرئيس الجديد، رغم ما يتسرب من أرقام هائلة يبددها باسترخاء، وكأننا فقط كنا حاسدين لعلي عبدالله صالح، بسبب من أننا نكرهه، في حين نتعامل بطيبة نفس مع هادي، تاركين له شراء الولاءات، وتثبيت رئاسته بأي ثمن نقدي.

كان لدينا أيام صالح حالة تصيد للفساد، يرعاها حضور حزبي مناوئ، يستخدم أحداث اللصوصية وبرنامج الفساد العام، في معركته مع معسكر صالح.

اليوم، يتمتع اللصوص بانصراف الناس لتصيد الأخطاء السياسية، ومتابعة الحوار وما شابه، ونحن نعيش هذه الأيام أجواء سياسية يدار فيها الصراع بأدوات واتهامات ضد بعضها، بعيداً عن المال العام وادعاء حمايته وتعرية لصوصه.

واللصوص بدورهم، هذه الأيام، أشبه بالذي يسمونه في القرى "سارق في ليلة غدارة مطارة". يعني الناس يحمون أنفسهم في كياناتهم الخاصة، مغلفين وجودهم بحالة من الانشغال بأخطار البروق، واللصوص يتجولون براحتهم.

لقد أصبح وزراء المؤتمر مثلاً في راحة من الرقابة، ذلك أن لا أحد يتصيدهم هذه الأيام، فهم لم يعودوا رجال الحزب الحاكم، ولم يعد يثقلهم حزب حاكم، ولا رئيس تمعن جهة في تصيد أخطاء رجاله، فأصبحوا الآن أبرياء مبدئياً، أو لنقل أبرياء بسبب السذاجة العامة، وبسبب اعتماد ملاحقة أخطاء الخصوم كمبدأ. أما وقد توقفوا نوعاً عن كونهم خصوماً، فقد منحهم ذلك الظلال الكافية للتجول في الخزينة العامة براحتهم.

الجانب الآخر المقابل، الذين هم وزراء المشترك، وتمثيل الثورة، لا يتورط منهم إلا الأكثر شهرة على غرار صخر الوجيه، وزير المالية، أو صالح سميع، وتكون الفضيحة على شكل مخالفة أو تعنت في صرف مستحق، أو صرف لجهة غير مستحقة، كما هو الحال مع صخر الوجيه، بينما ألقي القبض على صالح سميع وبيده تذاكر لعائلته. إذ إنه لم يعد من مصداقية كبيرة لوسائل المؤتمر الشعبي الإعلامية، ولا كفاءة للإمساك بلصوص المعسكر الوريث. والأهم من هذا كله، لا توجد رغبة مؤتمرية للعب هذا الدور الرقابي، ذلك أنهم يشعرون ببعض الحرج كمؤتمريين، أو كرجال زعيم، أثناء حديثهم عن الفساد ونهب المال العام، ربما بسبب صوت داخلي في النفسية المؤتمرية، يقول "أنت آخر واحد يتكلم عن الفساد". ثم إنه حتى في حمى الصدامات التي يختلقها رجال الزمن الجديد ضد صالح، فهم يعتمدون التهديد برفع الحصانة، أو ترديد لقب "عفاش"، دون أن يستخدموا فضائح المال العام الآن، وكأنه قد تم الاتفاق بين الجميع على تحييد تهمة الفساد المالي، وترك المال العام ليواجه مصيره، أو ليتم اقتسامه بتواطؤ جميع الأطراف، كاتفاق غير معلن وصلوا إليه هكذا بإدراك حاجة الجميع لنهب هذا المال، والصمت المتبادل تجاه ما يحدث.

أين كل تلك النقود التي كان يستأثر بها الرئيس السابق؟ ولو كانت الأرقام التي اتهمنا بها صالح حقيقية أو قريبة منها، لأحسسنا الآن -وهذه الأموال لم تعد في متناوله- بفارق كبير في خدمات الدولة أو قدرتها المالية.. أين ذهبت المبالغ الهائلة التي كانت بتصرف القفازات السوداء العائمة في حقول النفط وصفقات الأسلحة؟

يكفي أن نعرف أنه بعد الثورة، وحتى وقت قريب، كان هادي خصص للرئيس السابق 100 مليون ريال شهرياً، وأوقفها مؤخراً عندما اختلف مع صالح خلافاً شديداً.

وكان قادة المشترك يعرفون هذا الاعتماد، ولم ينبس أحدهم بكلمة.

أذكر أن صحيفة "الأولى" قد كشفت مثلاً بعض تجاوزات صالح سميع المالية، بمبالغ مليونية وتذاكر سفر وما شابه، وهي تجاوزات وممارسات فساد، لكن كما يقولون (للمرة الثالثة) في البلاد "جرادة من طرف مجرد". ولقد ألقت الصحافة أكثر من مرة القبض على رجل دولة أو وزير وبيده جرادة، بينما يبقى "القصيص الكبير" مفتوحاً في العتمة، يتجمع حوله لصوص الزمن الجديد، الذين يتعاركون بعيداً عنه، ويتبادلون الاتهامات والشتائم، لكنهم يطبقون المبدأ القديم "لا كلام على طعام".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق