الخميس، يوليو 11، 2013

العمر المديد لك يا حاج قاسم


محمود ياسين

عدت إلى صنعاء والقرية لا تصلح لأكثر من أسبوع تتملى الزرع وتشعر أنك ابن لعجوزين ينامان مبكراً وقد تركا لك القهوة وسراج قديم إلى جوار القعادة الحديد التي كنت تنام عليها في ثالث إعدادي.

لم يعد في بيتنا راديو ولا صوت انطوان بارود من إذاعة مونت كارلو- حتى سطح البيت تغير هو الآخر ذلك أن قرية الدنوة أمست أقرب لمزاج ضاحية وليس قرية نائية. البقرة أيضاً التي كانت جارتي لم تعد موجودة, هناك ادعيت أنني أتشمم الزرع وحاولت الفرح بالنوم في بيت يملكه أبي- وليس المؤجر ورحت أردد قبل النوم: بيتنا – حقنا وهكذا لكنني تغيرت مكتشفاً أنني لم أكن أعيش في المكان وإنما في الزمان كما يقول مارسيل بروست ،الزمان الذي رحل تاركاً لي القعادة الحديد وكتاب "المنهاج الفائض في أحكام الفرائض" لا يزال العنوان هذا يوارب من مكانه القديم ولا يبدو أن أحداً قد فتح الغلاف ليتأكد من تاريخ ميلاد أحد أفراد الأسرة المدونة بخط أبي في الغلاف الداخلي للكتاب وتحديداً تواريخ ميلاد الأحفاد أيمن وصلاح وماهر وأحمد أما البنات فلا أدري لماذا لم تحصل إحداهن على تاريخ ميلاد في أي من المجلدات القديمة.

تتساءل أمي عن الأسباب الوجيهة التي تدفع كلفوت لقطع الكهرباء وتمضي وقد أبدت موافقة شعبية لسياسة رشوة كلفوت بالنقود مع أنها لا تحتاج التيار الكهربائي بعد الواحدة ليلاً, غير أنها تعتقد أنني وباعتباري صحفي فأنا بحاجة ماسة لمتابعة أخبار الجزيرة ولتطمئن نفسها أيضاً أن ابنها إذ يتابع الجزيرة فهو يقوم بواجبه تماماً كما كانت في الماضي تترك لي الفانوس لكي أذاكر.

أسأل نفسي في الدنوة: ماذا لو تحقق حلمي أواسط التسعينيات بحصولي على درجة وظيفية بالثانوية لأبقى أُدرس الطلبة في القرية, ولطالما رحلت بين إب والدنوة على هذا الحلم لأستقر, وكنت أعود من إب كل مساء بكذبة وظيفية جديدة أطمئن بها الكهلين الطيبين ليناما أو ليدعاني أنام بهدوء. مع أن أبي لم يكن يوماً قاسيا ًمن ذلك النوع الأبوي الذي يلاحق فتاه حتى يهلكه فهو كان حنوناً ككل الرجال الأذكياء, يتساءل عن آخر ما وعدني به مسؤول أو حزبي بإب بشأن الوظيفة وينام وفي الصباح يجلب لي السجائر وطيلة المقيل يراقب حاجتي للمزيد من القات وكنت ألمح في عينيه ثقة ما بأنني سأنجو في النهاية.

الآن يقرأ أبي كل مقالاتي في الأولى ويجهد في فك طلاسم بعض المقالات ويردد أحياناً:ـ كلااااام حتى ولو التبس عليه المقال. رجل شغوف بالحياة وشفوق.. ورثت عنه سرعة الانفعال وانحياز أصيل لكلما هو ضعيف.

ها قد عدت. وصنعاء الآن قدري بدون تكلف رومانسي تجاه الجذور اللهم إلا التفكير في أن أبي قد تجاوز الخامسة والثمانين وأقول:ـ يا الله كيف سيكون وجودي بدونه؟ العمر المديد لك يا حاج قاسم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق