محمود ياسين
هي حياة لئيمة مصرة على جعلنا أقل مرحا، لا تكاد تعدم حيلة في تفخيخ قلبك، فتحايل عليها أو حاربها، أو انتصر بطريقتك. ثمة دائنون على شكل أطياف شريرة تلاحق مساءاتك، افتح التليفون واتصل بهم واحدا واحدا، أخبرهم أنك مدين لهم، لكنك لست ملكا لشبحهم، يقال أو ربما قلت أنا إن حكاية متداولة عن أهل قرية كانوا يمضون الى حقولهم وجلين من سطوة القناص ببندقيته في المترس المطل على مزارعهم، وبمزاجه قد يتصيد أحدهم، ويبقيهم هذا الاحتمال موتى طوال الوقت، غير أن قرويا منهم صعد الى أمام مترس القناص، وصاح به أطلق رصاصتك الآن، عليك اللعنة، وانقشع خوف القرية على الفور حينما حدق القروي في عيني الخوف.
صديقك الذي أسأت إليه، ويضغط على ضميرك
بإصرار، اتصل به، وأخبره كم أنك متأسف، وأنك حقا تكنّ له حقيقة ما تشعر به تجاهه لحظة
الاتصال. أما الذي نال منك بإيماءة حقيرة أو كلمة، فذلك ليس لأنك ضعيف، ولكن لأنه يفتقر
للتهذيب، يمكنك أن تخبره أن رائحته تذكرك بسروالك في صف سادس حينما خلعته أخيرا وقد
بدأ يسبب لك الهرش أثناء حصة العلوم.
ليس هذا محاكاة لمحاضرات التنمية البشرية،
وأنا أمتعض كثيرا من لكنة السويدان وقنوات "كن وكن"، لكن ينبغي لأحدنا مفارقة
همس الفن العميق الرثائي أحيانا، لينفض القذارات من حوله، وليس بالضرورة أن ينام بعدها
فورا أو أن يسترخي مستمزجا الخلاص، ذلك أنه لا خلاص في هذا العالم، لكن فيه قدراً مطلوباً
من شجاعة نبذ التفاهات وإشعال سيجارة بعدها أو الإصغاء لمقطوعة موسيقية وترديد جملة
شافية تخبر عن ضراوة ضغط الجرح ونزف القيح خارجا.
لا حلول جذرية، لكن هناك لحظات لاستعادة
ولو القليل من يقظة الكائن، وتمتعه بالولع وحس المرح، والخروج عن السيستم. البرنامج
الذي يبث بتواتر صورا معادة لضروب الهواجس والوجل، يا رجل قم وارتجل دشا باردا في أواخر
هذا الشتاء، وارتجف، وابحث عن هاجس طيب القلب تبادله الحديث، بدلا من معزوفتك الرثة
هذه التي لا تكف تدور حول دماغك، وتوشك أن تعطبه.
قاوم هذه اللئيمة الدؤوبة على تكبيلك بضروب
الانفعالات الشغوفة، قاومها بتأنق، وتعطر، واستمزج الماء والتنويعات الجسدية البهيجة.
الفن رثائي، وعمقه أقرب إلى فخ منه إلى
حقيقة شافية أو مواربة جذابة، وهذا الإخلاص للفن واستمزاج الرثائية ليس جذابا ولا عملا
حكيما، ذلك أنه بوسعك ارتجال فن شخصي لأجلك، وتعريفك الأنسب لوجودك اللائق، يمكنك ابتكار
فن الهزء من فخاخ الفن القديم وهو يصقل موهبته التاريخية لجعل الأمور أكثر تعقيدا.
أذكر أن نيكوس كازنتزاكي كتب في "تقرير
إلى جريكو"، إشارة مهمة للخفة الوجودية واستقبال هبات الحياة الصغيرة بتواضع وعذوبة
وحذق أيضا، وهو يقول: "فتحت البطيخة، غطست فيها وولدت من جديد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق