الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

يومان في بيروت

محمود ياسين



بيروت أنيقة بالفعل من نافذة الطائرة، وهي أنيقة وتشبه إلى حد ما مطر إب والبناء على التلال القريبة، غير أن هذه أنيقة فيما إب تشبهك في بساطة فوضاك.

مطار الحريري يذكرك بأزمة لبنان، وكيف أن رجالاً بعينهم خطرون على تسويات الشرق الأوسط بين قوى تستمد وجودها من تاريخها العرقي ومن استحالة تجاوزها، فيما كان الحريري حالة قائمة على قدرة الفعل في الحاضر. كان لديه نقود كثيرة وآلاف الخريجين الذين درسوا في جامعات الغرب على نفقته. الشيء الوحيد الذي اعتمدته معادلة الأطراف اللبنانية من جعل الحريري "واحد عادي" مثل البقية، هو في تسميته رجل السعودية.

أعاد الرجل بناء وسط بيروت، وهذا المطار المتأنق بعناية فائقة؛ تاركاً أشياء كثيرة بعضها مليارات لسعد وأخواته، وبعضها أحقاد، ومساحة نفوذ واسعة لحزب الله الذي يستقبلك فور مغادرة مطار الحريري، وفتيات الجمارك الخرافيات، بـشهدائه الخرافيين أيضاً. وهذه واحدة من طباع لبنان المدهشة، إذ إنك لا تحتاج سوى بوابة المطار للانتقال مباشرة من أنوثة لبنان إلى صرامة حزب الله.

بين كل 10 أمتار صور الشهداء أنفسهم. صور عريضة في إعادة عرضها إلحاح يتجاوز فكرة الوفاء للشهداء ولمعنى المقاومة، إلى تأكيد قوة حزب الله وحضوره في ما يشبه إصبع تحذير.

من يجرؤ مثلاً على استبعاد عماد مغنية، أو المطالبة بتصغير صورته بعض الشيء، وعدم تكرارها بإلحاح.. كل ما هنالك أن شعوراً من التضامن الإنساني بينك وبين نعومة لبنان، أو ما تبقى منها على واجهة المطار، ينشأ تجاه صرامة حزب مدجج بحاجتنا جميعاً لاحترام المقاومة.

يتورط الناس في صراعات تفرض عليهم أنماط حياة مخالفة لطبائعهم، تفرضها أيديولوجيا المدافعين. وتتجول الحياة بذلك الوجل الأخلاقي الذي ربما يستفز حراس البوابات.

لا تدري ما تفعله آخر الأمر إزاء من نذروا أنفسهم للفداء وحمايتك في النهاية حتى من طبعك.

حتى إن رقة لبنان وتجوله التاريخي بشخصية فتاة الشرق الأوسط، لا تكف هذه الشخصية في ذهنك عن عرقلة شخصية الشهيد وافتقارها لطريقة ملائمة لاسترضائه.

يسعى حزب الله بلا هوادة، ليس إلى تحويل لبنان إلى فتاة محجبة، بل إلى إعادتها تماماً إلى الشرق الأوسط؛ من خيارات الدولة وطبيعة تحالفاتها، إلى تحديد مساحة العري المسموح بها من إعلانات الملابس الداخلية في الضاحية.

السائق كثير كلام، وهو قد أفسد علاقتي ببيروت باقتراحاته الكثيرة عن المطاعم، وتدخلاته في تحليلاتي الأولية بشأن لبنان وفداحة المقاومة على أنه عسكري قديم يسمع رأيك في سلاح جنوب لبنان واستحالة التسوية بوجود ذلك السلاح بين الجبل والجنوب. فيشرح لك إمكانية الوصول إلى تسوية من خلال سرد قصته أيام كان يحمل علم العرض العسكري في اليوم الوطني.. مردفاً الحكاية بـ"شفت كيف؟"، فأهز رأسي بامتنان من حصل على معلومة شافية.. وهو قد استقبلنا بطيبة قلب مفرطة، وورطنا في دماثة التعامل مع مقترحاته البغيضة وتاريخه العسكري بتلك البلادة والاحتقان الذي يداهمك أثناء حؤول أحدهم بينك وبين لبنان.. حتى إنني كرهت الطعام اللبناني، واشتكيت من كثرة الزيت، ولم أعد قادراً على هضم شيء.

و"فداء" يصبح مع مرور الوقت طيباً أكثر ومملاً أكثر، وعلى دراية بكل شيء، ويعاملك بذلك النشاط الذي يبديه متدرب سياحي لسائحين عليه إخبارهما أن هذه التي مرت إلى جوارنا سيارة سجن؛ مضيفاً بعناية: "تنقل السجناء من مكان لآخر". على أن ما بين القوسين إيضاح كان لابد منه. "وهيدا نادي. نادي رياضي"، وبقية لكنته المؤلمة تتردد في رأسي طيلة الليل: "وهيدا نادي. نادي رياضي". وكرهت الطيبة والورطة، واستقبلنا صباح اليوم التالي على باب الفندق، وهو أكثر نشاطاً وجاهزية، فاستسلمت للأمر كأي قليل حيلة. حتى إنني بدأت أتساءل بجدية عن أشياء بدت لي البارحة مجرد تفاهات.. نائف هو الآخر أرجع الأمر إلى طباعي المتطلبة، وحملنا فداء إلى مستوى تفكيره وطريقة نظرته للأمور، لدرجة أنني أبديت لعائلته في جبل الدروز ولاء كاملاً (لوليد بيك) قائلاً، ليس من باب المجاملة، ولكن من باب الإذعان، إن اليمنيين يصفون الرجل المحترم (القبضاي) أنه درزي. باركوني على ذلك كله، وردوا المجاملة بشعورهم بالفخر لانتمائهم في الأصل لليمن. قلت إن الدروز أصلاً كانوا في جبل قريب من صنعاء على ما أظن، وكانت عائلته، رغم كل شيء، الخصلة الوحيدة الممكن قبولها. لا أدري رغم المجاملات الساذجة، لمَ راقني الجلوس لتلك العائلة؛ ربما لكون الأمر جاء كتلبية لرغبة في معرفة لبنانيين غير السائق.

بدلاً من الاستمتاع ببيروت كنت أقرفص في غرفة الفندق مهموماً بالسائق، باحثاً عن أمل في الخلاص. نغص الرجل علي فرحة المسافر، ودفعني للإمعان بطبعي، وما إن كنتُ متسامحاً أم لا.

يومان وأنا أكره الرجل، وأبذل بعدها مجهوداً خارقاً للتحلي بروح التسامح.. الباقي الذي ترسب في ذاكرتي مجموعة صور لجبل لبنان اختطفتها على عجل، وهي صور خضرة الجبل القريب من البحر، وبهاء ما بعد العاصفة الثلجية، وصورة الممر الخلفي لبيت وليد جنبلاط في المختارة، وشيء من حسد شخصي لفكرة ميراث النفوذ؛ إذ قالوا إن الدروز نصبوا وليد زعيماً أثناء وصوله من بيروت مراهقاً على دراجة نارية عقب اغتيال والده كمال جنبلاط.

أحب هذه الطريقة في الحياة وهذه الهبات المدهشة. جبل مدهش ترث خضرته ودروزه كلهم،

وتتحول خطاباتك النارية ضد "طاغية الشام" إلى رنات هواتف فتيات الجبل.

بيروت متعالية عموماً. لا تصاحب بسهولة. فيها برد، وأسعار مبالغ فيها بعض الشيء.

أرخص فندق بـ60 دولاراً في الليلة، ولا يمكنك خلال أيام التواصل مع مدينة متطلبة كهذه، أو التخلي عن محاولة إظهار مدى اهتمامك بتجاذبات أطراف السياسة اللبنانية كأنك تلوذ من تجاهل المدينة لك باستعراض معرفة خيارات أقويائها. أو هكذا خطر لي أثناء شعوري بالاغتراب عن "جونيه" وخضرة الجبل ومعاطف المطر.

أحدهم كان متأنقاً بالمعطف وكأنه مايكل دوجلاس. ويقول الناس عن اللبنانيين إنهم هكذا قد يتجول أحدهم ببدلة (بيركردان) دون أن يكون في جيبه ثمن ساندوتش.. يتصرفون غالباً بامتلاء، ولا أحد يمكن الجزم ما إن كان هذا الامتلاء حقيقياً أو مفتعلاً. حتى إن جورج المحتال قد باعني 3 تذاكر وهمية بامتلاء وثقة بالنفس... كان ينتزع مني الـ120 دولاراً مستغرباً من ترددي ويقول: "شوبنا؟"؛ بنبرة من يشفق على قروي ساذج من عناء التحاذق. تركني فاغر الفم أحدق في إعلان عطر من ماركة مشهورة تعرضه سيدة شبه عارية، فتساءلت بجدية من يحاول نسيان جورج: ربما لم يصل نفوذ حزب الله إلى هذه المنطقة، غير أن زميلي لم يرضخ لهذه الجدية في تثاقف العري والسياسة، معيداً أي نقاش إلى قصة الـ120 دولاراً المضحكة.

وكلما سألته ما الذي ستفعله مؤسسة الجيش اللبناني الرسمية إزاء سلاح حزب الله؛ يرد علي قائلاً: كيف فعل بك جورج؟ لم أجد الأمر مضحكاً حتى اللحظة ربما لكونه كان حليفاً، وربما لأنني بذلت مجهوداً لكي أغادر بيروت بدون سذاجة من أي نوع كما يحدث عادة عندما يتخذ المسافرون قرارات من هذا النوع قبل هبوط الطائرة، فغالباً ما أفلتت مني سذاجة ما في المدن القليلة التي سافرت إليها، ومن فرط اليقظة وانشغالي بها يلتقط أمثال جورج هذا الاحتشاد اليقظ كرائحة قروي لا يرقى إليه الشك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق