الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

لا شيء يحدث في دمشق

محمود ياسين



لا شيء عن سوريا حقيقة. ثم إن ليس بالضرورة أن يكتب أحدنا عن أي مكان يزوره.. تعبت من الظُّرف وسرعة البديهة، ناهيك عن أن ذلك التقليد كريه في قصص الاحتيال التي يتعرض لها المرء في المدن البعيدة، ويسردها بفكاهة.

لا شيء تبقى من دمشق.. سوى واجب التعامل معها في عمود صحيفة "الشارع".. وبما أنك لن تكتب شيئاً مما كنت قد أزمعت كتابته عن وجل السوريين، ورأيك السياسي الذي سيكشف سر ذلك الوجل.. فما الذي ستقوم به إذن؟

وجدت الأمر غير ذي جدوى في رثاء أنماط الحياة في الشرق الأوسط. إذ إن أحدنا ليتعب مع مرور الوقت من كونه واحداً من ليبراليي منطقة تتم إدارتها على نحو غير ليبرالي البتة.

وكأن الحياة تكشف لك بطريقة ما زيف التواطؤ الذي اعتقدته قائماً بينك وبين مثقفي بيروت، حين تهم بالكتابة عن دمشق.. فلم يخطر حازم صاغية على بالي، ولم أفكر في مقالة له تعزز عندي فكرة التواطؤ القديم على كراهية نمط تفكير دمشق. إذ لا أحد في بيروت يعول كثيراً على ردة فعلك الثقافية إزاء دمشق. وتذكرت، أو ربما اقترحت، بلاهات يقوم بها يمنيون في بيروت، يبحثون فيها عن رفاقهم الليبراليين، حاملين في آباطم أشياء من قبيل: سمير قصير وجماعة 14 آذار؛ فيما أظن.

نحن جميعاً نعيش على ضمان الصور التي نلتقطها لأنفسنا من زاوية نُحدد فيها أصدقاءنا في المنطقة، ومن هم الكريهون تحديداً.. إذ إن من المهم مثلاً بالنسبة لليبرالي يمني في بيروت، أن يتأكد بانتظام من كراهيته لحزب الله.

من يتجول منا في الشرق الأوسط يبحث عادةً عن تأكيدات لمواقفه المسبقة والتزاماته القاطعة تجاه الصورة الثقافية التي يجب أن يكون عليها... أو يبحث عما تردده الفضائيات وتحليلات المتخصصين بشؤون المنطقة.. كأن أحتفي مثلاً بمعرفة أن هذه السيارات التي تجوب شوارع دمشق بعضها صناعة إيرانية. وهي سيارات كثيرة لا أدري لماذا كنت جاداً ومهتماً بمعرفة مدى قدرتها على منافسة السيارات الأمريكية تحديداً.

في الظهيرة، حين تخفق في محبة الجامع الأموي بالقدر الذي عزمت على الكتابة عنه، تنشغل بتفاصيل عجيبة كالسيارات الإيرانية.. وقد تبدو لنفسك من ذلك النوع من رجالٍ يتأكدون في كل فرصة من مدى قوة طرف لم ينحازوا إليه ضد أمريكا، لكنهم يطمئنون على ذكاء عملية التحدي التاريخية التي أعلنها ذلك الطرف. أو أني كنت في الحقيقة قد تركت لوعيي الباطن أن يتصرف على هواه، مباركاً هذا التحالف بين دمشق وطهران ضد إسرائيل..

الباقي أشياء حدثت بين فندق سميراميس وساحة المرجة، وهي جملة مشاحنات مع سائقي التاكسيات الذين يأخذون أجرة مضاعفة على عداد السيارة. وكنا ننتقم من كل واحد منهم قائلين بصوت واحد: قدكم أخس من المصريين. ومشاحنة أخرى في مكتبة قريبة من "المرجة" مع أكاديمي سوري عمل اليمن، وكان رأيه سيئاً في بلادنا، وما كان عليه مجابهتنا برأيه هكذا بدون مقدمات. رددت عليه، ووجدت الأمر في ما بعد غير مسلٍّ إطلاقاً. رجل متقدم في السن أذكر أنه ارتبك من عدوانيتي الوطنية، كمن أسقط في يده.

يجبرك الشرق الأوسط دائماً على المشاركة في معاركه التافهة على الأغلب.. فلطالما كرهت مصريين وسعوديين، وهذا السوري في المكتبة، بسبب توجسي الدائم مما أظنه بجاحة العرب الذين يتصرفون جميعاً بنفسية مُدرس اُبتُعث يوماً للعمل في اليمن.. ولا شأن للوطنية هنا، إذ إن الأمر شخصي بدرجة ما. وحين أعلن رأياً قاطعاً في خلو صنعاء من أي حقير مقارنة بالقاهرة التي يتجول فيها آلاف الحقراء، فذلك لأنني لم أغفر لمدرس مصري أخبرنا باسترخاء، عندما كنا في الصف الرابع، كيف أن أحد أقاربه الفلاحين سأله بدهشة، في العطلة الصيفية، بعد عودته من اليمن: عندهم في اليمن حمير؟ وأجابه الأستاذ شحاته: "هم نفسيهم حمير..". لا أذكر هل ضحكنا يومها أم لا.

بعد تلك الحادثة بزمن طويل، زرت القاهرة بشخصية كاتب صحفي، وفكرت في زيارة الأستاذ شحاته في المنصورة على ما أظن... لأخبره أن الحمير لا يتم استضافتها في مبنى صحيفة "الأهرام"، مؤملاً ألا يكون الرجل قد تخلى عن رأيه ذاك. وتأكد لي أن أغلب العرب غير مستعدين البتة للتخلي عن شخصية المدرس تلك، حتى بائع السجائر هذا الذي يحدق ببلادة في الوفد الصحفي قرب موقع خط برليف، تسأل بنبرة الأستاذ شحاته: إنتو من بلاد الحج صالح؟..

ما إن تكون يمنياً حتى يصبح أقربهم إليك ذكياً حاد اللسان.. الصحفي البائس الذي كان يستضيف خطيبته على حساب رحلتنا في باص صحيفة "الأهرام"، أصبح هو الآخر ذكياً ولديه كبرياء أثناء تعريف خطيبته بفصيل من "أبو يمن". أخبرته في ما بعد أن هذا ليس لائقاً، وأنه يدرك أن "أبو يمن" تشير إلى قصد غير مهذب، فاعتذر بلؤم منطقة تعيش كلها على لؤم البداهات.

في الكويت أشادوا بكرمنا في الضيافة فحسب. والكتاب الذين جاملوا اليمن، تحدثوا بدماثة الكبار عن ذكائنا الفطري. وجميعهم، في كل الأحوال، يقرون تماماً بفكرة أصل العرب، كمن يحاول التخلص من الذنب، أو يقوم بجبر الخاطر.. الحلاق العراقي في شارع حدة، يشعر بالأسى لأجل اليمن. ومن غير المجدي معايرته بمصير آرائه السياسية هذه في حالة خطرت على باله في بغداد.

كنت على وشك معايرته بصدام. وأُدرك في حقيقة الأمر أنني لن أتصرف على ذلك النحو مهما حدث. غير أن أحدنا يحتقن إزاء لامعقولية تصرفات الناس؛ كهذا الحلاق الذي يقيس كارثة بلاده بكونها وصلت به للاغتراب في اليمن.

تذهب الأفكار بين أكثر من مستوى للتعامل مع منطقة مضطربة أصلاً. ولطالما تساءلت: أكان ميلان كونديرا يرد يوماً على رأي سيئ قاله مثقف عن موطنه تشيكوسلوفاكيا؟

وماذا لو جابهت مذيع قناة الجزيرة أحمد منصور بقلة تهذيبه المفرطة مع فكرة اليمن..؟ وكيف أنه بالغ في إهانة البيضاني، ضيفه في "شاهد على العصر"، بسبب يمنيته، وليس بسبب ما سمعه من آراء متواترة لأناس يكرهون الرجل..؟ أكان الأمر يستحق أن يقوم مثقف بعرض صورة أحمد منصور الشنيعة أمام عينيه؟ وكيف أنه في الحلقات التالية التي استضاف فيها الأمير طلال بن عبدالعزيز، لم يكف عن مسح جوخه مردداً: سموك.. وحضرتك... الخ..

لم أكن لأفكر يوماً أنني سأقع في ضغائن من هذا النوع، والحاجة لإيضاحات الفوارق بين ما هو وطني وما هو شخصي.. أو الكتابة في هذا الموضوع تحديداً. والتفكير مثلاً أن أكثر الوقائع تفاهة صالحة لأن يتورط المرء فيها بطريقته.. وهي فكرة لا تخلو من مزايا، ولو من باب ميزة فهم طبع المنطقة أكثر، والتأكد منه أكثر، ليحصل أحدنا على سبب مقنع لغرابة أطواره أحياناً..

وأن ينتهي الأمر بمنطق: "لقد ورطني غباء الشرق الأوسط في معركة ساذجة في إحدى مكتبات دمشق، مع رجل سوري عاد بأشياء سيئة عن اليمن".. حكاية عميد جامعة في اليمن أغلق بوابة الجامعة حتى ينجح ابنه في إحدى المواد. من أين يأتون بهذه الحكايات..؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق