الخميس، يناير 24، 2013

لسان للتعب


محمود ياسين

كان الأدب يتهكم من السياسة، ويحتفظ الناس بأبيات شعر تمكنهم من تجاوز عدم قدرتهم على فهم السياسة الى التهكم منها. أذكر أنه وحتى وقت قريب كانوا يتداولون أبيات البردوني وشعراء مغمورين في صنعاء، قالوا تهكمات مهمة جذابة سهلة الحفظ، ويمكنها جعل من يرددها حاذقا هو الآخر، ويسرد من خلال هذه القصائد انفعالات صنعاء وأكاذيب السياسة والضحك على الذقون، ناهيك عن شعر الهمهمة بالموقف الإنساني المفجوع من استخدام المبادئ للسرقة والمزيد من خداع الناس على غرار (لم أظن يوما أنني سأستخدم كلمة غرار).. المهم على غرار قصائد القردعي إبان فشل ثورة 48، وشهادات شعرية أخرى كانت من البراعة لدرجة تحيز الناس للفن بمعزل عن موقف الشاعر، والفكرة الأخيرة هذه يمكن تبينها من ترديد كل الجمهوريين وبشغف بالغ، لبيتين قالهما الغادر في ليالي صراع الملكية والجمهورية عقب ثورة سبتمبر:

حيد الطيال أعلن وجوّب كل شامخ باليمن        ما بانجمهر قط لو نفنى من الدنيا خلاص

 لو يرجع أمس اليوم وإلا الشمس تطلع من عدن    والأرض تشعل نار والسما تمطر رصاص

بالنسبة لمحيط إب القريب، وهذا ما أدعي ملامسته أكثر، وكيف تراجم الناس بحكمة الشاعر الذي من بلادهم، واسمه قاسم الشهلي، متمزجين تنويعاته اللماحة للحاذق الأعزل بوجه تغولات الأيام، وغرابة ما يقوم به الحكام شيء من هكذا من قبيل اقتصار القراءة في السياسة وهضم جوهرها من خلال أبيات مقتضبة تدور حول خيبة الظن بذكاء، وهذا يجعل من يردد شعر الشهلي يحصل على الطريقة الأمثل للمشاركة في اختزال الوجدان العام، وموقفه من خديعة لا يدري الناس تفاصيلها، غير أن أبيات الشهلي تمنحهم ذلك الإحساس بالارتياح الذي ينتاب شخصا ذكره أحدهم بكلمة كانت على رأس لسانه، ولا يستطيع قولها، من ينسى "ساعدتني لكن كسرت ظهري"، وهي تأخذ شكل مثل حاذق يكثف تبعات المساندة المصرية لثورة سبتمبر، والقصيدة طويلة مطلعها هكذا:

طلعت حسن قد جالنا بدبوس      عاري نكع يا ناس فوق مخلوس

 وهات لك منحوس يجر منحوس     والشعب في حاله يعلم بها الله

إلى أن يصل ليضع بين يدي اليمنيين المثال الشهير عن فداحة المساندة المصرية:

ساعدتني لكن كسرت ظهري    أديت لي تسعين ألف مصري

قلعت لي عيني نزعت ظفري   موش هكذا يا ويلكم من الله

أصبح الشهلي هاربا لا يلوي على شيء، ولا يريد مجدا من أي نوع، وقد أذاعت الملكية قصيدته من جبال الحدود، أما الممتعضون في صنعاء من كثافة الوجود المصري، فقد حصلوا على ترنيمة لاستيائهم، ووعاء حاذقا للغمغمة، مرددين: "طلعت حسن قد جالنا بدبوس"، ذلك أن الدبوس بحاجة دائمة لفن يراوغه ويكشفه، ويخرج له لسانه ليجعله قابلا لأن يهزم ولو داخل نفس الهارب المتهكم، ويردد الناس هذا كمماسك تمكنهم من ملامسة الحدث الأشبه بجمرة يقتربون منها بملقاط الفن.

لا أشهر من قصيدة قاسم الشهلي: "وقلنا البنطلون أخف حملا لهذا الشعب من ثقل العمامه"، وهي أكثر من هذا البيت، غير أنني سميتها بهذا البيت لأن اليمنيين تهادوا بها وتباهوا بمضمونها الذي في ذلك البيت تحديدا حول رضوخنا على مضض للبنطلون السبتمبري، على أمل أنه أخف من ثقل العمامة الإمامية. هذه القصيدة تركها قاسم الشهلي لمحمد أحمد منصور على أنها قصيدته وموقفه، وكان الشهلي يعول على قدرة منصور على حماية القصيدة، فتركها له. كانت آخر تنويعات الشهلي بعد هذه القصيدة التي تقول أيضا في مطلعها: أطعناكم لنسلم من أذاكم ولكن لا سبيل الى السلامه، وكأن هذا لسان حال المشائخ (لم أكن أظن أنني سأقول يوما: لسان حال).. المهم لسان حال مشائخ الأيام الأولى الملاحقين من ثورة سبتمبر، أما الأخيرة المتهكمة، فكانت هكذا بعد أن قامت الحكومة ببيع القمح الأمريكي الذي قدمته الولايات المتحدة هدية لفقراء اليمن، فباعوه للتجار، وقال الشهلي:

إذا لم يكن عندكم رحمة      فخلوا لنا رحمة الكافر

ولو أن موسى رأى جوعنا   لأرسل بالعجل والسامري

من من اليمنيين لا يعرف "يا ذي الجبال اللي بديتي ماشي على الشارد ملامه"؟ القردعي وهو يفسر للجبال حقه في الهرب بعد ثورة 48، ويختمها هكذا:

قولوا ليحيى بن محمد بانلتقي يوم القيامه

لا يمكن للناس الآن إبقاء قصاصات المقالات التحليلية لمواقف عبد ربه، ومدافعات علي محسن، وتجمهرات الحراك الجنوبي، في جيوبهم، ليخرجوها ويقرأوا كلما أحسوا بحاجة للشعور بأمان تأبط تفسير الحدث وملامسته، أما الأبيات فيمكن حتى للفلاح ترديدها وهو في طريق السوق يتوجس من الغلاء، مدركا قسوة المسؤولين، فيردد لنفسه: ولو أن موسى رأى جوعنا لأرسل بالعجل والسامري.

وهنا يتواجد بهويته المحرومة الملامسة لصورة قرآنية محمولة على بيت شعري، يجعل لحرمانه موقفا شخصيا نابها يخفف عنه شيئا من عذابات القسوة المبهمة.

الفن يمنح الناس ملامسة آمنة بظلم الحكام، ويمنحهم لسانا وشجنا.

ناهيك عن فضيلة أساسية للشعر الذي يتهكم من الأوضاع الأليمة، وفساد الحكم، فبمجرد ترديده يتخلق داخل الإنسان استلذاذ بهيبة حكمة وصف الكوارث، ونباهة تملي جنون وتقلبات الأيام والدول.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق