الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

توفيق أحمد ناجي صالح

محمود ياسين


لم أتمكن، الأسبوع الماضي، من جعل مسألة كراهية الرياضيات أكثر من علاقة شخصية كتبتها في مقالة. في حين لم يظهر أي من الكارهين الآخرين لتلك المادة.

أثناء الكتابة يتحلى أحدنا بالمسؤولية ويحرص على الجيل، فيتحاشى جعل الأمر وكأنه دعوة لكراهية العلم. فنحن كصحفيين يجب أن نُظهر قدراً من احترام العلم، إذ أننا بطريقة ما نحيا على ما يفترض به الاحترام الجماعي للعلم..

وكأن هناك في الأصل نصيحة للطلبة برمي كتب الرياضيات والتحويل أدبي مباشرة.. فأغلبهم يعانون مع الرياضيات. وحضرني أثناء الإقدام على تلك النصيحة إسماء مثل دانيال الفرنسي الذي قاد ثورة الطلبة في فرنسا الستينيات، ومقولات لنيتشه، وكل ما له علاقة بالاختيار مقابل الثمن الفادح الذي يهدد ذلك الاختيار أول الأمر، وما تلبث تلك الفداحة أن تتلاشى مع تذوق الإنسان لأولى حوافز اختياره -أياً يكن ما اختاره- إذ لا أحلى مما ذهبت إليه بنفسك كامل الضربات، ولو كان الجحيم..

وما لبث إقدامي على تلك النصيحة أن تلاشى هو الآخر وأنا أرى الطلبة أبعد من صوتي على أبواب قاعات الامتحانات. لسبب ما ظننتهم لن يسمعوا صوتي يتردد في الممرات: لا تختبروا رياضيات.. لا تدخلوا قاعة الامتحانات..

إنه حقاً لامتحانٌ أليم يجعلك تشك في قدراتك كلها، وتحترم أناساً حققوا بطريقة لا تدريها تقدماً ما في مادة تدرك في قرارة نفسك أن امتحانها غير عادل، ولا يفصح مدى التعامل معها أكثر أو أقل وضوحاً عن مستوى ذكائك الحقيقي.

لعل المنهج لم يراكم خبرة فرز المعلومات الرياضية وعلاقتها بالحياة وبالعلم طريقةً لاستيعابها بعيداً عن التجريد.. ولم يتم نقلنا من الأعداد الصحيحة إلى المعادلات بطريقةٍ سليمة..

كان في المنهج نوع من ادعاء الفاهم الذي أعد للجيل مستوى آخر لا يخلو من التعالي، إذ لم يكلف المنهج نفسه عناء التواضع، وشرح جبر الكسور، على أنها جبر للكسر بمعناه المتداول والشعبي والمتداول.

وفي مجتمع متخلف كهذا لا أحد يأبه لهول ما يواجهه الطلبة من امتحان غير عادل لكامل شخصيتهم يبدأ من الثانوية.. ولطالما سمعت في الصفوف سؤالاً من نوع: "ما قصدهم بهذي الرموز؟"، ويبدأ الفرد في التعامل مع الرمز بتلك الطريقة التي يعسف بها بعض أتباع الطوائف الشرقية فيها أرواحهم بما يلائم طلاسم التنسك.. بمعنى أن ثمة ما يلتبس في روح الطالب إزاء الحياة بسبب قسر روحه على تقبل تجريد هو وسيلته الوحيدة للقبول به ابناً ذكياً سيشرف العائلة، أو شاباً لائقاً بابنة الشيخ.

عدم تعاملك مع المعادلات يعني خسارتك تقدير المدرس السوري الذي كان يباهي بكونه أكثر واحد يفهم رياضيات بعد الله..

كان توفيق أحمد ناجي يراجع عقب كل امتحان في مدرسة النهضة، من أول ثانوي حتى ثالث ثانوي: "مو حليت هذه المسألة؟". كان يراجع ويتفحص، ثم لا يكف عن التفحص والاطمئنان على أنه في الوضع الأمن. ومن فرط توجسه كان يسألني حتى أنا شخصياً عن الإجابات فلربما كنت قد أجبت بطريقة صحيحة هذه المرة.

إن إجابة خاطئة في الأدب مثلاً كانت لتثير الضحك، على خلاف أخطاء الرياضيات التي تستدعي الشفقة.. إذ إن فهم المجرد أو التعامل معه بسلاسة هو مناط الحذاقة بالدرجة الأولى.

وكنت أذكى من أغلبهم، وكنت قد رضخت لفكرة أن يعلمني توفيق في متكأ المذاكرة، تحت طابونة الفرن الذي يديره أيام الامتحانات. إذ إنه في الأيام الأخرى مثلاً يتسلم البقالة أو متجر الجملة، ولا أدري إلى الآن لماذا كان يرسله أبوه لإدارة الفرن أيام الامتحانات تحديداً..

توفيق يشرح المصفوفات، وأنا أحاول أن أفهم، وكانت حرارة الطابونة المطفأة حديثاً تلفح ظهري، وكنت أتبرم ثم أدعي الفهم تحت دهشة توفيق وروحه الدؤوبة. يحمر وجهه من تبسيط المصفوفات، ولا يدعني أخزن حتى أفهم، وكنت أكره مثابرته، وأفكر في أن لا أحد يذاكر لصاحبه انجليزي أو أدب، وإلا لذاكرت له وتعادلنا.. وكان ذلك ينغصني، لا بسبب التكافؤ في المقامات، بقدر ما هو بحث في طريقة لتبادل المثابرة على منفعة الصاحب..

وأصبح التواصل بيني وبين توفيق تشابكا في المصفوفة.. إذ تسرب تجريد محاولاته ودرجة استجابتي إلى كامل صداقتنا، فمضى يحاول جعل هذه الصداقة أسهل وأوضح، وبدأت أحاول أن أفهم تلك الصداقة وأنبش في جدواها، وأتبرم من عدم بساطة الأشياء.

أظن الأدب يبدأ هكذا غالباً.. إن أعظم صديق حصلت عليه كان توفيق أحمد ناجي صالح. أحبني كما لم يفعل صديق، ولم يجاملني يوماً بطلب سماع واحدة من قصائدي.

وحين ظهرت النتيجة لمحت وجه توفيق. كان خجلاً مني للغاية.. بسبب المجموع القليل، فهو من النوع الذي يعتقد دائماً أنه لم يقم بما عليه.. وجه توفيق أحمر أصلاً، لكنه ظهر ذلك اليوم كاد ينبجس دماً تحت شعوره بمسؤولية خذلان صديق ربما كان عليه الاجتهاد أكثر لجعله يفهم المعادلات..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق