الجمعة، أكتوبر 08، 2010

من يمكنه انتزاع ذاكرة سوق السبت؟

محمود ياسين

كن حذراً ولا تبالغ في الضغط على كوابح السيارة وإلاَّ وقعت في الهوة السحيقة وانتهت حكايتك إلى حادث مؤسف يتكرر يومياً في نقيل سماره الذي يشبه أمعاء بغل..
من هنا تبدأ إب حيث الخضرة الهائلة وتداعياتها التي بدأت من قدرتها على إعادة توزيع الجغرافيا السكانية على عاتق الذرة وحكايات موجات الهجرة الداخلية من البحث عن ملاذ من غائلة الجوع وانتهاءً بصراع التكتلات القبلية الجديدة .
أخيراً تجاوزنا آخر منعطف في سماره، أصبح عليك الآن الخوض في أول أسرار إب ومفتاح استثنائيتها الذي اختصره علي ولد زايد: (إن كنت هارباً من الموت ما أحد من الموت ناجي ..وإن كنت هارباً من الجوع اهرب إلى سحول ابن ناجي ) .
وعلي ولد زايد هذا رجل لا يعرفه مؤرخ إن شئنا الدقة، إنه أكثر من شاعر وأقل من فيلسوف، كان يوماً ما يسكن قرية منكف أعلى سماره، تعدد الرواة وتعددت حِكم الرجولة وكلمات العشق لهذه الأرض لمئات الناس عبر مئات السنين ولم يجدوا سوى علي ولد زايد متحدثاً رسمياً، أما سحول ابن ناجي فأمامك مباشرة: أحد أشهر أودية اليمن وحقول الذرة، تنتج العملة الوحيدة التي بقيت متداولة إلى اليوم .
يحمل الفلاح كيس الذرة ويستبدله بالملابس والغاز والملح.. والماضي الجميل البسيط لا يزال ينافس العملة الورقية والريالات الهزيلة على استحياء.

سوق السبت

على جانب الطريق كانت الخضرة الباذخة تفضي إلى سوق السبت أحد أشهر أسواق الأيام في اليمن التي تبدأ من السبت وتنتهي بسوق الجمعة، ساحة مستطيلة تنتهي إلى مجموعة دكاكين صغيرة مضى عليها قرون من احتواء المقتنيات والحبوب والأجبان.. ضجيج هائل وزحام تجاوزناه بصعوبة إلى المرباع (سوق الحيوانات) .
يتداخل ثغاء الخرفان بصراخ القناطين.. يعلنون آخر سعر لهذا الثور المملح الذي يربِّت صاحبه على ظهره بأسى : اسمه محمد عبدالعزيز، جاء إلى سوق السبت لبيع ثوره بما قد يصلح لعلاج زوجته (هكذا قال)، ومحمد عبد العزيز تجاوز العقد الخامس من عمره دون أن يفوته سوق سبت واحد، مضى تاركاً ثوره (زهير) يتلكأ خلف صاحبه الجديد، أقسم أنه كان يتلكأ وفي عينيه ذلك الحزن الحيواني الصامت والعميق في ضجيج سوق السبت، أما القناط فوسيط حاذق يعدد مميزات الحيوان ببراعة، مستعرضاً قدرات الثور على حرث نصف وادي في يوم، وبين القناطين لغة خاصة تشبه الرسائل المشفرة حتى لا يدرك البائع أو الشاري حقيقة الصفقة .
كان الزحام أكثر من حزن الثيران والبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة، وسقطت الكاميرا من يدي فاجتاحتني مشاعر تيس، من يمكنه انتزاع ذاكرة سوق السبت من ماضيها الذي لا يزال ينبض بحيوية فائقة، إنها ورطة تشبه ترديد الكلمات الجوفاء (لا حظ تكرار كلمة زحام وتفاصيلها) سوق السبت يعني اقتناء الأصلي (حمار القرش غالي وحمار المِيَهْ رخيص)، أشياء الفلاح وحكايا المكسب والخسارة ونكهة الجبن البلدي تتفوق على أشهر ماركات الجبن العالمية .
يقولون سوق السبت فيتذكر الفلاح ثوره الوحيد، ويحلم الأطفال بالعطوي رغم أنف الشوكولاتة، يقولون سوق السبت فيؤجل حميد ملهي خلافاته وينساب مع إغراء الزبيب على مدى نصف قرن .
يقولون سوق السبت فتدفع الحوامل المدللات رجالهن لاقتناء (صلعة) جبن بلدي وإلاَّ خرج المولود أعور، وفي مخرج السوق كان بني عنان يأخذون حقهم ممَّن باع ومن اشترى باعتبارهم أصحاب السوق.. مردود أسبوعي دفعهم للاقتتال على جولات بدأت بسقوط الشيخ قاسم عنان وانتهت بمقتل الفتى نشوان، ولا يزالون على عادتهم ينهون خلافاتهم العائلية بالبنادق ولذلك قالوا: (حكم بني عنان بسوقهم) .
السحول لم يتوقف بعد عن استقبال المهاجرين الباحثين عن فرصة حياة في خصوبته، وتحولت معظم حقول الذرة إلى مزارع قات (سمعته سيئة) إذا ما قورن بالقات الميتمي، ثقافياً الذرة أفضل من القات، وعملياً : القات أفضل من الذرة بكثير .
لقد تحول فلاحو السحول من " رعية " إلى برجوازية صغيرة اجتذبت مقاوتة قدامى وشذاذ آفاق شنقوا الجندي على حافة الجسر الذي يردم ضفتي سائلة وادي الجنات.. عصابة أفسدت معنى وادي السحول في الذاكرة الجمعية، قتلوا المارة أو نهبوهم.. ردوا الجنود بالنيران وانتهوا إلى عصابة منظمة كانت تقطن وادي الموت (إلى يمينك تماماً) حيث التلة الصغيرة تحتشد بالبنادق والتين الشوكي، وانتهت قصتهم إلى محكومين بالإعدام وذكرى سيئة.

حكايا العجائز

مع صعود السيارة في الطريق إلى مدينة إب كان وادي السحول يستحق التفاتة جديرة بدغل أصيل لم يكف عن كونه أخضر، ومن الماضي الحكائي كانت الفتيات السبع يتيمات تركهن الأب إرضاءً لزوجته الشريرة، هناك في مغارة جبل بعدان المطل على السحول ومن قلب المغارة كان نداؤهن الأسطوري يتصاعد: (أبه أبه كم لك تبول، أسقيت عنَّه ووادي السحول) .
بقيت الحكاية صالحة لمقاومة الملل لعجائز القرى المطلة على الوادي، قرى الشرف وعتيق والمرزوم وشعب يافع، حيث تميزت عجائزها بميراث الحكايات المسائية المرتبطة بنكهة المكان (السحول) وتفاصيله وأشيائه ومن ضمنها حكاية البقرة، وما أكثر بقر السحول المزركشات، وحكاية البقرة لها ترجمتها الشعبية باسم (سمأة الديدة)، فكل حكاية تعني سمأة وكل بقرة ديدة بالنسبة للأطفال على الأقل.
وسمأة الديدة هذه حكاية منغصة من جهة طبيعة السرد.. إذ يبدأ أو تبدأ هكذا: أقول لك سمأة الديدة ؟ فيجيب الطفل : أيوه .. فيقول الحاكي : لمه تقول أيوه ؟ وتستمر متوالية الإجابة عن السؤال بسؤال إلى أن ينفجر الطفل باكياً وتضحك الجدات بعد حصولهن على ما يبدد الملل.
الأمر على قدر كبير من الجدية، فحكاية البقرة (سمأة الديدة) على غرائبيتها المحلية تستحق كلاماً مملاً كهذا، فلقد ظهرت في الأدب الشعبي لبعض شعوب أمريكا اللاتينية والجنوبية وضمَّنها جارسيا ماركيز في رائعته (100 عام من العزلة )، حيث يحاول سكان قرية ماكوندو مقاومة وباء السهر المملِّ بسرد الحكاية ذاتها على بعضهم حتى لا يقتلهم الملل – في مائة عام من العزلة ثمة إشارة إلى التجار العرب - فمن نقلها إلى الآخر ؟ وعلى نكهتها السحولية الفائقة يبدو أن الحكاية بترجمتها الحرفية قد هاجرت من أمسيات عجائز السحول إلى عجائز ماكوندو في أقاصي ريف كولومبيا.
لقد كان ماركيز محقاً عندما قال عن واقعيته السحرية إنها الحرية والبساطة في الحكي وتصديق الخرافة التي أخذها عليه لويس بورخيس، وقال متهكماً : ماركيز هذا ولد مشاغب يحفظ كل حكايا الجدات، ومع أقمشة التجار العرب التي كانت تبهر نساء ماكوندو ثمة حكاية ديدة كانت مخبأة في ثنايا قماش سحولي، وتحول الآن إلى مجرد ذكرى عطرة.. ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقبل موته بأيام أوصى أن يكفَّن ببُرْدَيْن سحوليَّين .

إب الريحاني

بعد قليل ستطل على مدينة إب مروراً برؤية بعيدة لشلال يسقط من شاهق بعدان، لا تحاول فهذا هو المكان الوحيد لرؤية شلال يستعصي على الاقتراب، وغير الحكايا ففي إب ما يبدد الملل على اعتبار أن المساء لم يحل فليس هناك ما هو أكثر ضجراً من مساء إب.
عندما رآها أمين الريحاني بهره الهمس بين زحمة الدُّور وفتوة السنابل في وادي الظهار فقال: إب قبضة لؤلؤ على بساط أخضر، ولو رآها اليوم لاعتقد أنها بنطلونٌ رثٌّ تخلَّص منه عامل طلاء باليومية .
في طريقك إلى إب القديمة يجدر بك تجاهل زعقات الدراجات النارية أو البحث عن ما يدهش.. تجاوزنا شارع صنعاء إلى يسارك ميدان الكبسي ينبعث منه دويٌّ هائل لا تدخله، فثمة مباراة بين فريقي الشعب والاتحاد ستنتهي بعد قليل باشتباكات دامية بين المشجعين.. منذ 4 عقود وهم يتقاذفون بالزجاجات الفارغة في سبيل فريقين شطرا المدينة إلى نصفين لدودين .
أما هذه الرائحة العائلية فبسبب الكشت – أشهر وجبه في صباح إب - يطلقون عليه اللوبي في المراجع العلمية، الكشت مسألة إجماع غذائي يميز إب ويمنح سكان ضاحية الخربة وعيقره فرصة عمل وربحاً جيداً على خلفية تخصص في زراعته وتفوق في إعداده، تتصاعد أبخرتها مع ساعات الصباح الأولى وحتى ظهيرة كهذه .
وإذا قال لك إبِّي (من إب) إنه فرغ للتوِّ من التهام ألذ إفطار في العالم فلا تذهب بعيداً وتفكر في الكافيار أو السُّجق، فالمسألة لا تتعدى صحن كشت تتصاعد منه الأبخرة .
أمامك خياران للصعود إلى إب القديمة.. كسائح من الدرجة الثانية تجتاز السلَّم الحجري مروراً ببقايا سمسرة الدشل التي ظلت وحتى قيام الثورة بناءً وحيداً يقبع خارج الأسوار، ويمكن اعتبار السمسرة معادلاً لما كان يعرف بالخان .
بعد العشاء كانت إب تغلق أبوابها الرئيسية، فلا يجد الغريب سوى سمسرة الدشل يجد فيها ملاذاً وعلفاً لحماره أو بغلته- إن كان من عليَّة القوم- يصلح المكان لالتقاط صورة تذكارية لإب الجديدة وطرح بعض الأسئلة السمجة على المارة من أبناء إب القديمة الذين لا تنقصهم الكياسة والقدرة على السخرية، قلت : يا حاج لو سمحت ليش كانوا قبل الثورة يغلقوا باب الكبير بعد المغرب ؟، قال : لأجل ما يدخلش أهبل مثلك.. كان ذلك مجرد تحية مبدئية والباقي هناك في الأزقة التي تؤكد أن هذه المدينة ليست أكثر من مزحة.
الأسلوب أو الطريق الثاني هو الأكثر متعة على ظهر دراجة نارية خلف أحد الفتيان الذي ورث المهنة عن أبيه في الغالب.. لقد فشلت كل محاولات إدارة مرور المدينة لاختراع طريق للباصات التي تمر شبه فارغة إلا من المسنين جداً، إنهم يفضلون الموترات (الدراجات النارية) وبأجرة مضاعفة .
يقول عازف العود الشهير في إب نبيل علوي: من يشوفك وأنت راكب باص ؟ - المتور حقك وحدك وبعدين ترفع يدك اليسرى لتحية الأصحاب، لدرجة أن الأستاذ محمد الربادي ظل وفياً له حتى أيام عضويته لمجلس النواب، لذلك علَّق منافسه على الأمر قائلاً : "الحكومة صرفت لأعضاء مجلس النواب 300 سيارة ومُتُـر للربادي" .
عندما مات الربادي بكته إب بحرارة جديرة بمناضل ومثقف قومي شريف رفض كل إغراءات وميزات نفاق السلطة، وستجد عند اجتيازك باب الكبير صورة تذكارية بقبعته الخيزران الشهيرة إلى جوار عبدالناصر وبومدين وإبراهيم الحمدي .
يستيقظ العزي ويفتح دكانه الصغير بنفض الأتربة المحتملة عن ما تبقى من رجال العروبة التي كانت تعني بالنسبة له حياة، لكأنهم ليسوا مجرد ذكرى في إطار، يمنح صورة عبد الناصر اهتمامه الأكبر وكأنه يُصلح وضع ربطة عنق الرئيس قبل افتتاح مهرجان قومي .
العزي يحاول إيقاظ ماضيه، كل صباح سيمرُّ من أمامه راكبو دراجات نارية ومشاة لا يملون التحديق في عيون القادة، لطالما هتف العزي ضد الإمبريالية والرجعية وإسرائيل والملكية، وبقيت إب قومية لا تأبه للتحولات.. اقترعوا في أول انتخابات وحدوية لصالح الربادي الذي مات بعد فوزه بشهور فنصبوا ابنه قليل الخبرة رغم أموال وضغوط السلطة، وغير آبهين للإسلاميين، لقد اقترعوا لصالح بقائهم .
كان الشارع الضيق المرصوف بالأحجار يقود إلى قلب المدينة حيث السوق الأعلى والميدان، طريقٌ ملَّسته الأحذية والإطارات، طريق يفضي إلى الستينات ولا شيء غير الستينات .
ابتداء من السَّلَطة والكباب، مروراً بصور أساطين القومية والخيار الانتخابي الوحيد وصوت العرب وأحمد سعيد يكرر بياناته على شريط مسجل، لا تتردد في دخول مطعم ابن عمر الذي يشبه مدخل سرداب .
ستحصل على وجبة سلتة حارقة عمرها قرون.. وفي الجوار ثمة فنجان شاي في انتظارك يهتز على يدٍ معروقة قدمت الشاي يوماً للرئيس الحمدي، وعلى نفس هذه الدكة جلس الرئيس الحمدي ذات صباح منح (الربعة) هذه الطاقة على الاستمرار في تكرار صباح تجاوز 60 عاماً.
أنت الآن أمام الجامع الكبير الذي أسسه عمر بن الخطاب وخطب على منبره كثيرون كان أشهرهم فقيهاً اشتراكياً اسمه الربادي، الذي خلفه رشيد الصباحي بعد عودته من الجهاد في أفغانستان، لم يتخلَّ أبناء المدينة عن قوميتهم فانتخبوا رشيد لأنه متواضع ويدعو لمقاومة الظلم.. انتخبوه ولم يتوقفوا عن اختراع النكات التي تسخر من الحزب الذي يمثله .
هذه هي إب.. ستينات الأحلام والمفارقات والمزحة المأساوية، مغاطس الجامع الكبير تحتشد بهجمات الكهول وفوضى الماء الذي يخلصهم من الظهيرة والقيظ .
لم أهمهم على سبيل التأكد ودخلت المغطس لأفاجأ بكهل يحاول الطفو على ظهره، كان عارياً تماماً وعلى وجهه ابتسامة رجلٍ مضياف.. قال لي : تفضل غذاء، على هذه المئذنة ظل الغرباني يرسل تباشير الفجر عبر صوته الذي يصل إلى الضاحية كأقوى مكبِّر صوت جاء بعد رحيله، نصف قرن والغرباني يحدد لبائعات الخبز ومعدِّي الكباب موعد استيقاظهم، يقولون : كنت أقوم من النوم والغرباني يسبح .
تغادر الجامع الكبير نقياً بسيطاً وعلى شفتيك ابتسامة لذكرى قاسم الفقيه الذي لم يكن يتردد في صب اللعنات على رؤوس المصلين قائلاً : ساووا الصف – لعنة الله عليكم - ألف وأربعمائة سنة ومش قادرين تساووا الصف ؟ .
هذا الزقاق يقود إلى الجاءة ، والسينما التي تعرض فيلماً هندياً شاهدته قبل 20 عاماً عندما أتيت من القرية باحثاً عن البطل فتحولت إلى طريدة، ذلك أن فتيان الجاءة توقفوا عن متابعة الفيلم ليعبثوا بطاقية القروي المتسخة، ربما تكون حادثة عادية.. غير أن فتيان الجاءة يستحقون دراسة متخصصة كأبرز نموذج لعنف المراهقين الذي تراكم حتى وصل مؤخراً للصدام المسلح مع السُّلطة، عصابةٌ منظمة قوامها هؤلاء الذين أسفوا لنهاية آبائهم القوميين القدامى، وفضل الإسلاميون في التعاطي مع عشقهم للأفلام وبنطلونات الجينز.
يقول محمد صلحي: زعيمنا وشيخنا عبدالله الميتمي.. لسنا عصابة، إحنا مجموعة أصدقاء ما يعجبناش وضعنا فارغين بلا عمل، والوظيفة أبعد من عين الشمس، يبدو أن صلحي اختصر قضية العنف المنظم الطارئ في مجموعة كلمات بنبرة حاقدة للغاية .
أما عبدالله الميتمي (زعيم الجماعة) فقد حلقوا شعره الطويل وصادروا درَّاجته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق