الجمعة، أكتوبر 08، 2010

لا أدري أين ذهبت فكرة الطلبة؟

محمود ياسين

كنا نحلم أن نغير البلاد بعد التخرج – ولم نتخرج عملياً.. وتحولت فكرة الطلبة في إلحاق بعضنا إلى ذلك النوع من مشاعر رجال يتمسكون بكل الصور التي تبقيهم صغار السن..
لم أسمع يوماً أن أحد أساتذة الجامعة قد عاد من الخارج بأفكار هدامة، أو أنه تمكن من خلق نمط تفكير في مدرجات جامعة صنعاء وجعل من هذا النمط حالة تهديد لثوابت المجتمع..
أو أن أجهزة الأمن مثلاً قد شعرت بالقلق من العلاقة الاستثنائية بين الدكتور محمد عبدالملك المتوكل وطلبة قسم العلوم السياسية بجامعة صنعاء.. وبقي القلق المتداول من الأستاذ الجامعي (المتوكل أنموذجاً) من علاقته بطلبة الشباب المؤمن بصعدة- على افتراض أن هناك علاقة أصلاً..
الطلبة في حياتنا هم طلبة حسين الحوثي أو مقبل بن هادي الوادعي أو طلبة عبده سالم وهو يتجول في إب بين مقر حزب الإصلاح وجامع عمر بن عبدالعزيز، باعتباره الشخصية الإصلاحية الأكثر غموضاً وتمثيلاً لفكرة الطلبة (الفكرة الخطرة)، هذه المقاربات البسيطة حول فكرة الطلبة ومآلاتها تستدعي طريقة فهم السياسة في صنعاء للفكرة على أنها فكرة حجريَّة لها علاقة باليسار وانكبابه على الاستقطاب وليس على العلم..
في بدايات التسعينيات كانت مدينة إب قد بدأت تتداول حكايا فشل الفكرة الطلابية وتحولها إلى مبعثٍ لخيبة الأمل.. كان الآباء قد أرسلوا أبناءهم للدراسة في جامعات الاتحاد السوفيتي السابق وجامعات أوروبا الشرقية، وعاد بعضهم بزوجات أوكرانيات طويلات بشكل لافت، وشهادة طب عام، مع أنه من المفترض أن يتحول هؤلاء العائدون إلى مراكز نفوذ جديدة في صنعاء.. إذ لطالما رجعا الوعي الأبوي بين الفكرة الطلابية والحصول على موطئ قدم وأن يظهر أحدهم قريباً من الرئيس في منصة احتفالات عيد الثورة.. غير أن تجولهم بين المركزي والجبانة بمدينة إب وهم مجرد موظفين بغير دلائل من أي نوع عن كونهم مهمين ما جعل من فكرة الطلبة بلا شأن يذكر..
أحدهم كان قد تلقى التهاني المستبقة ليلة سفر ابنه لدراسة السياسة في بلغاريا.. وكم كان يفرك يديه إزاء فكرة (الابن السياسي)، وحينما عاد لم يكن هناك ما يشير لأي علاقة بين الفتى والسياسة، فجنح الرجل للتبرم من هذا الزمن، كأي رجل يعاني البواسير، بسبب خيبة الأمل.. وبدأ يظهر احتقاره للعلم على أنه (أي العلم) على علاقة بقلة الرجولة..
والحق أن طلبة مدرسة النهضة الثانوية بإب كانوا قد بدأوا في احتقار العلم مبكراً، أيام كنا نحيل خيباتنا المرتقبة إلى مجموعة نكات أظهرت كم أننا قد توقفنا عن التعويل على كوننا طلبة أو دون أن نغفل استثمار فكرة أن بقية باقية من احترام العلم في المجتمع يمكن استخدامها للحصول على المساندة.
ذلك النوع من شعور المخادع المضطر الذي يأخذ مسبقاً حوافز الوعي الساذج وهو يبالغ في تقدير ما سيُسفر عنه العلم..
أراقبهم الآن، عصر الجمعة، عائدين إلى كلية الشرطة.. وأذكر كم حلمت قسرياً بأن أخطو هذه الخطوات الممشوقة بالبدلة الملائمة وفي يدي حقيبة من هذا النوع.
من مجموعتنا كلها لم يلتحق أحد بكلية الشرطة غير ذي يزن، كونه ابن مدير مرور إب. ومع مرور تعلمنا كيف نقبل واقعية حياة لم تعد تلقى كبير أمل على فكرة الطلبة عقب انتهاء التسجيل بكلية الشرطة.
إذ كانت إحدى الدفع المتخرجة أيامها قد تحولت كلها إلى (مدراء نواحي). أي حكام مناطق صغيرة- وتمنى كل واحد في ريف المدينة أن يختم أيامه وهو (أبو مدير الناحية).. تخرج ذو يزن بشارب رائع وحماسة بالغة.. لا تزال تلك الحماسة في عينيه في صورة كبيرة على زجاج السيارات، مكتوب إلى جوارها: (شهيد الواجب الرائد الركن ذي يزن أحمد مثنى.. استشهد في صعدة).
أصادفهم في الممرات بدون ذكرى جامعية من أي نوع.. ربما كانت الثانوية هي المرحلة الوحيدة الملائمة لفكرة الطلبة...
ونحاول دائماً أن نتذكر كم كنا طلبة متخففين وطيبين وأصدقاء، ذلك أننا المرحلة التالية لأيام الطلبة اليساريين، وربما تكون تلك هي المرحلة الوحيدة الجديرة بفكرة الطلبة هذه..
إذ كانوا يحلمون بتغيير الأوضاع عن طريق العلم، مرددين أشياء عن صراع الطبقات والديالكتيك، مع وعيهم الكامل بكونهم جزءاً من حركة سياسية وخراج عام يجتاح المنطقة.
أنا لم أحظ بأيٍّ من هذا ليس لأنني لم أكمل دراستي الجامعية، ولكن ربَّما يحصل أحدنا على حق التحدث باسم جيل كامل من خلال شعوره الشخصي بما آل إليه أمر الجموع..
إذ لم يحدث أن تشاركت وأحدهم الشغف بعقيدة شرقية كـ(الطاوية)، وكل الذي دار بيني وبين قسم الفلسفة بجامعة صنعاء لم يتجاوز التساؤل عن طريقة الحصول على ملزمة في الفلسفة الشرقية..
في واحدة من إجاباتي في قاعة الامتحانات حاولت أن أذهل الأستاذ الذي سيصحح دفتري، وحاولت ربط أشياء في العقائد الشرقية ومقارباتها الفلسفية بروح قارة آسيا، وما أظنه (فكرة الأب المخلص)، وكانت الفكرة مترابطة نوعاً ما، المهم أن الأستاذ لم يكترث حتى إن كان ما قلته ضرباً من التحاذق الفارغ.. والمهم أنني لم أعرف –ولازلت- كيف أتواصل مع فكرة اكتراث أو عدم اكتراث الأستاذ.. إذ أنه ما من وسائط بين الطالب وضروب محاولاته أن يبدو طالباً..
المرة الوحيدة التي كانت فكرة الطلبة قد وجدت فيها دوراً وطريقة للإفصاح هي أيام مجادلات العطلة الصيفية في المرحلة الثانوية مع القرويين. حينما كنا ندافع عن فكرة أن المطر من بخار الماء.. ويقول الناس أن المطر من الله، وكانت المحصلة أننا متعلمون وأن فكرة الطلبة قائمة على قيد وساق، محاولين تفسير أن الله ينزل المطر ولكن بأساليب علمية..
بعدها ومن أيامها ونحن نريد أن نتوظف ونضمن المستقبل بمعناه الوظيفي الصرف.. حتى الآباء تعلموا مع مرور الوقت كيف يكونون واقعيين، متسائلين عن درجات وظيفية أو حتى تعاقدات، وانحصر الأمر أخيراً في تحاشي الفراغ وما شابه..
على مدى محاولات -في أكثر من مقالة- لم أتمكن يوماً من إيضاح كيف أن جامعة صنعاء بلا فكرة طلابية مدهشة، وأقول أشياء كثيرة دون أن تتضح الفكرة لي شخصياً.. ذكرت دانيال الفرنسي الذي قاد ثورة الطلبة في الستينات، ذكرته مراراً لدرجة أن أحدهم نصحني بلؤم أن أدع دانيال وشأنه.
غير أن بودي إيضاح الفكرة- أو على الأقل التخلص من إلحاحها – ولكنها متعذرة على الدوام كأنها لم تحدث عملياً، ويصبح الأمر إيضاح ما لم يحدث، ناهيك عن هذا الولع الدائم بما يشبه لكنة الصرخة عن خطورة أمر ما..
إذ تتلاشى الأشياء ومدى أهميتها في حضور الانفعال القائم أصلاً على الاستماتة في محاولة لفت الانتباه لما هو أساسي أكثر – والجملة الأخيرة قد وجدت من ينقدها ووجدت فكرة الطلبة هذه تعبيراً عن وجودها- ونعود لأول أساليب المناقشات القديمة وأصل الشيء، بمعنى هل أن فكرة الطلبة (أمر أساسي أكثر؟) في أنماط التفكير الواقعي جداً؟!
يبدأ الناس بمحاولات إيجاد بنى معرفية وتحديد مصطلحات قبل أي شيء ومن ثم تكريسها ودفعها للتداول، وترك مسافة لقوانين الطبيعة أن تقوم بدورها، على أن فكرة الطلبة هذه ليست بمعزل عن بقية مفاصل نمط التفكير اليمني، ويمكن الاكتفاء بالعمل الحثيث والدؤوب لخلق حالة من نوع ما عن طريق إطلاق مفاهيم.. ولست هنا بصدد إيضاح أنني في خضم إطلاق مفهوم (فكرة الطلبة).
كل ما هنالك أنني أحاول التخلص من شخصية الطالب الثانوي التي تحاول تحديد خياراتي على الدوام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق