الخميس، يناير 24، 2013

مكافحة الكئيبين


محمود ياسين

نتقدم في العمر والناس زبلين، ومع مرور الوقت اعتدنا متاعب الشيخوخة المبكرة، وهذا صديق يسألني اليوم عن الإجراءات المهمة التي عليه اتباعها لتجنب احتمال أن يصاب بالجلطة، فجلط المقيل من أوله، ورحنا نتسابق مذعنين للوسواس المتجلط، وتحت رحمة مخاوف صاحبنا رحنا نتسابق على استحضار نصائح طبية ذات صلة بالوقاية من الجلطات، وأحدنا اقترح المزيد من الأسبرين، وأنا اقترحت عليه الترنج والسفرجل وكل الفواكه التي تترك في الفم نكهة الديزل.

أنا بالطبع احتفظت بنصيحة أن "يقع رجال ويبطل هبالة ووساوس"، فالجلسة تستدعي المجاملة والانخراط في الغباء، وما أتى المغرب إلا ونحن نخوض في مستنقع من المواد المسرطنة، وتبين لي من حصر أولي لهذه المواد، أن كل ما ألتهمه وأدمنه وأحبه مسرطن، مع أن الحقيقة أن الأشخاص الكئيبين هم السبب الأول للسرطان والجلطة والتهاب المسالك.

كنا ننكت ونروي الأكاذيب الفكهة، ونمتدح العطور والنساء، ومؤخرا تسمع الى جانبك كائنا يتأتح أثناء ما يمضغ القات وكأنه يحتضر، ويقول رأيه في الحوار الوطني، مع أنه بحاجة ماسة لحوار ناجز مع قولونه وجيوبه الأنفية، ومع وجوده برمته على نحو أليق من هذا الوجود المتأزز الذي يلقي فوقك هالة من الثقل، ولقد تحول حاضرنا الى ثقل محض.

أين ذهبت خفة الكائن واحتيالاته على دنيا لا تكف عن نصب الفخاخ؟

أظن السبب يعود لأشياء غير نقص الأكسجين في صنعاء، وغير فشل الثورة، وما نظنه تعثر الحوار الوطني، لنتجهم يوميا هكذا.

إنه قلة التهذيب، حيث يبعثر أحدهم كائناته الداخلية التي في أعماقه، وهي مزيج من سحالٍ وعرادن ونقزات امرأة مهجورة توسوس وتشعر بالاضطهاد، يقوم ببعثرتها على رؤوس الناس، ويجرهم إلى ذهانه ونمط تفكيره الريبي، وما تغادر إلا وأنت تراقب ما يبدر عن جهازك الهضمي والعصبي من تقلصات هي أنشطة عادية داخل أي كائن حي، غير أن الرجل قد أقنعك أن ما يهتز داخلك إنما هو نذير جلطة أو سرطان أو ربو، وتقوم لتخوض معركة مع أوكسجين صنعاء الأقل من حاجة رهابك المرضي للامتلاء، وهو هذا الذي أحدثكم عنه، لا يكف عن كونه يشعر بضيق التنفس، ويتحدث عن هذا الضيق على أنه نتاج لعبقريته وذكائه المفرط، وحساسيته الروحية العالية، بينما هو ضيق أفق فحسب، وعاصي والديه، ودمه ثقيل، وينهك جهازه التناسلي بالخيالات المريضة، ليحاول استثمار ذلك كله، وتقديمه على أنه موقف وطني حزين مختنق بفشل الثورة، ويئن تحت وطأة الفساد، مع أنه لو تواجد في أعرق بلدان الديمقراطية والعدالة والجمال، لبقي هكذا يتأزز، لأنه مخلوق متأزز أصلا، ولقد خرج من بطنه أمه وهو يتأزز، وكان يرضع ويتأزز، وفي المدرسة كان يهرش ويأكل السفرجل، ويتباهى على زملائه بكونه الوحيد الذي يحفظ قصيدة صوت صفير البلبل، وهو إنما حفظها بسبب من ولعه بالتعقيدات، ولو كان الأمر بيده لحذف البيت الأول من القصيدة، فهو يكره في حقيقة الأمر صوت صفير البلبل، ولا أروع ولا أحب الى قلبه من صوت قلاب الحجار الذي يطلع النقيل وشكمانه مخروم.

كيف يتخلص أحدنا من الكئيبين الوطنيين الذين وجدوا ملاذا لمزاجهم السيئ في خيبات الوطن؟

وما إن خرجنا معاً، وأنا أحاول إيقاف تاكسي أو متر أو شاحنة سائقها أعور يوقف فوق رأس صاحبنا هذا، إلا وهو إلى جواري يقترح عذابات إضافية، لدرجة أن قال بجدية رهيبة: إيش رأيك بدل ما نزبل بعد القات، وبدل ما تضيع وقتك، نروح نحضر ندوة أو ورشة عن مكافحة الفساد؟

هو بالطبع لم يسمعني وأنا أغمغم قبل أن أهرب: "مكافحتك مكافحتك انته".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق