الأحد، يناير 19، 2014

لقلبك نشوة


محمود ياسين

نبحث عن الفرح كل يوم حتى لا تنكمش ملامحنا، وندمن واقعية الإخفاق والأسى.

من يلوم موظفا لديه أطفال أكثر من طاقته الاستيعابية، ولديه خصومات ومذلات وتحديات غير عادلة، من يلومه وهو يلقي النكات الاضطرارية، ويضاحك نفسه متمسكا حد الاستماتة بدنيا ضيقة عليه، لكن عليه ارتداءها وتوسعتها بادعاء المرح واختلاق مسرات في النشوة والقراءة وإدراك كنه الأشياء.

إننا جميعا أشبه بتلك الفتاة المكتنزة لصة المصارف في أمريكا، وهي تتحدى ضياعها بالمجازفة والحشيش وطيبة القلب، وعندما حاصرتها الشرطة كانت تبذل شجاعتها المأساوية متلقية الرصاص على إيقاع لحن رثائي من احتضارها المعاتب ترنم: لست مجرما، إن حظي سيئ.

نتمسك بها دنيا بنت كلب، لكن هي ما لدينا، وعلينا البحث في لؤمها وعهرها عن مساحة للمخاتلة بقلوبنا المثخنة المحبة للحياة، ذلك الحب الذي هو ورطة أصلا.

كلما احتضرت وفقدت مبعث العيش، تذكرت ذلك المعاق المدهش على رصيف التحرير، في أحد نهارات صنعاء، قبل سنوات، وقد وضع له أحدهم أغصان قات جوار رقدته، وكان يحاول بما تبقى من التواءة ساعده، تقريب غصن القات من فمه المدموغ ببلاط الرصيف، حيث لا يدان ولا قدمان ولا شيء غير الرقدة في وضع جنيني جانبي مشلول، لكنه في هذا كله لا يزال يريد أن ينتشي بالقات، ويحاول باستماتة حياة ضاربة في العجز، ولكنها ضارية ناشبة في فرصة نشوة وضعت أمام رقدتها القاهرة.

تتحرك يا صديقي، فتمتد لك طرقات، وهكذا وجد الكون ربما من حركة تخلق إرادتها مجالا بمقاس اندفاعتها. نعرف أنه ما من طريق نشأ قبل الخطوات، وتجهز لها، لكن الخطوات هي التي تمد الطرقات، وكذلك الأخاديد التي تمدها حركة الريح، ومجاري الأنهار حيث تشق حركة الماء مجرى بقدر وجود الماء ورغبته في الاندفاع.

يدور هذا في الأصل حول كيف أن الإنسان يجد آخر المطاف طريقة لمخاتلة دنيا تبدو عند التهيب الاستعدادي لعيشها؛ تبدو ظالمة لئيمة على قدر من التنبه المستفز لأية حركة قد تبدر من عاثر الحظ، غير أنها في الأخير تستجيب مثل أنثى الأساطير في أعماق الغابة، تحاصرك طريقها بالأشراك والفزع الباراسيكولوجي، لكن هناك من يمضي ولا يلتفت، ليصل للنبع الصافي، ومن يتلفت تتخطفه مخاوفه الزاعقة من داخله، وليس من الغابة.

قد لا تصل للنبع الصافي، والأرجح أنه ما من نبع صافٍ في هذا العالم الموغل في العفونة، لكن ربما تجد في إيماءاتك صوب الماء والحميمية شكلاً من تواطؤ شبقي بين اندفاعتك والوجه الآخر من الحصار البادي على تغضناتك وضروب يأسك وفقدان المساحة لركل التفاهات بعيدا.

أحب محبة الحياة، وأفضلها على يقيني اليائس المدرك بفداحة أن كل شيء متعذر وملتبس وناءٍ.

أحبني سعيدا ولو بدوت لي أحمق بدرجة ما، أو أقل جاذبية وافتتانا بمظهري الحصيف، حيث تتم رؤيتي كيائس رومانسي جذاب وحصيف وغامق.


ذلك الجذاب البارع في التخلي، والمتجول في لؤم العالم بسلاحه هذا "التخلي". ذلك جذاب حقا، وإن تدع ما بيدك ليسقط في هوة نهم الوجود لسلب ما بيد عاثري الحظ. غير أنك جسد أيضا، وحركة تحتاج لعضلاتك تضاريس ولقلبك نشوة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق