السبت، مارس 01، 2014

المرور من الضالع


محمود ياسين

توترت جداً في الضالع، وقلت وأنا ألمح المسلحين الملثمين، إنه ربما كان يجدر بي العودة من طريق تعز -إب.. لكنني، وبدافع القلق الذي أطلقت عليه "حنكة"، كنت أقترب من الثوار الملثمين بسرعة مشغوفة، أبتسم وأرفع يدي بتحية من ذلك النوع الذي يتبادله المنشقون في ما بينهم.

هذا ليس تحريضاً على الضالع.

لكن كل التحذيرات احتشدت فقط وأنا في قلب المدينة، وأحصيت فجأة 3 تحذيرات تلفونية، أنه ينبغي عليّ تجنب الضالع في طريق العودة، ذلك أنها مفخخة بالتقطعات وبالحماسة المفرطة. وتذكرت أيضاً، وبشكل حصري، وجوه القادة العسكريين الصارمين، حتى إنني اعتبرت كل صقور الحزب قبل الوحدة، ضالعيين. ولم ألتفت لخراب شارع الضالع الوحيد ومجاريه الطافحة، إلا لاحقاً.

في حال لم تجد تلك التحية نفعاً، كنت لأخبرهم أنني لطالما دافعت عن الحق الجنوبي في العدالة، دون أن أتفحص في ما سأقوله، مدى التزامي السياسي. فأنا حقاً أنشد العدالة دون حاجة لمواقف مسبقة، غير أنهم حقاً بدوا لي مختلفين عن رافعي الأعلام من فتيان عدن، أمس، في تظاهرة حراكية بالشيخ عثمان، فهؤلاء مقاتلون بلا تأويلات. لقد قبلوا التحية، ولم يحدث شيء، ولم أدرِ ما أقوله لصورة الشهيد جباري، وهو يحدق بي من صورة ضخمة على يسار الطريق، وقبل قليل من بوابة اللواء العسكري، لدرجة أن تداخلت ردات فعلي في قلب هذا الاحتشاد في مدينة رثة تقف وإصبعها على الزناد.

فكرة الرثاثة لا تحمل مدلولاً سياسياً من أي نوع، فلم أصادف في حياتي كلها مدينة بهذا القدر من الإهمال العارم واللامبالي.

يشير البعض لفكرة أن إهمالاً متعمداً للضالع رسمياً من كونها بلا ثروات تحت الأرض، مقارنة بحضرموت أو شبوة مثلاً.. ويبدو لي حقاً أن الضالع، إضافة لمزاجها القتالي، فهي أيضاً، وبدرجة ما، تستعيض عن افتقارها لتلك الموارد، بكل ما يمكنها التلويح به فوق الأرض.

فكرة الإهمال القصدي هذه على درجة من الواقعية، فالطريق من المفرق، حيث ضللني الصبي الصغير، وأشار لي أن هذا طريق تعز، ووجهني صوب الضالع، هو طريق حمير وبغال، ولا يصلح للسيارات، إلا بما يكفي لإعدادك نفسياً للتوتر الضالعي، وكأن الطريق يمنحك تفسيراً إضافياً لما تترقبه من عدائية.

كيف لم أفطن لوجود قارئي الروايات النهمين، الذين يتواصلون معي من الضالع، قبل مروري بها اليوم..؟ لماذا تفقد الذاكرة كل إشارات الود ومعالمه، في لحظة توتر لا يمكن الاتكاء عليها لبناء حكم أخلاقي ضد أحد..؟ فقط لا تحتاج الضالع الشارع والبنى لمحامٍ، فوضعيتها تدين زمن صالح وزمن هادي، بلا مرافعة.. أما العنف بوصفه تعبيراً عن الاحتجاج، فيبقى بلا نصير عاقل على أية حال.

المشكلة أنني استحضرت مأساة أول زيارة لي للضالع، عندما قتل سائق هايلوكس من منطقتنا في الضالع، واكتشفنا لاحقاً أن قاتله ليس من الضالع، لكن دم عبدالله تخثر ذهنياً على تراب الضالع، مما خبرته ضمن مراكمة معلومات وانطباعات. فالضالعي أقرب لصورة علي أحمد ناصر عنتر، بمن فيهم أصدقائي، حيث الشخصية المتأججة المندفعة، متمتعة بسرعة الاستجابة للعنف والاستعلاء، مع مسحة تلقائية وشهامة.

كانوا يقولون عن الضالع "سنحان الجنوب"، وهذا غير كافٍ إلا في مجال تداول مفاتيح السياسة من أيدي الموروث الشعبي.

وهي حقاً ضالع التماس بين نظامي شطريين خلقا في الماضي ما نلمسه الآن من تقديم الضالع لنفسها جزئياً بوصفها المعادل العنفي لما يظنه الشمال.


وربما الخبير بدواء الآخر الذي لم يتقمصني، ولم أتورط في تمثيله، ولو لوهلة، في رحلة الـ500 متر، أو ربما الألف متر، بين طرفي الضالع التي لا يمكن بحال تسميتها مدينة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق