الأحد، يونيو 13، 2010

من يقتل البغل؟

محمود ياسين
sayfye@gmail.com

حياة اليمني ليست جيدة البتة. حتى الذين يملكون نقوداً كثيرة، يشترون قاتاً أكثر وبالتالي يقلقون أكثر.

إنهم يحدقون من بعد المغرب، يحدقون جميعاً في البلاهة، ويتساوى الجميع في هذه الحالة الهذيانية الجماعية، فلا تعود تدري أيهم الذكي، ومن الذي لا يعاني ضغوطات. في اليمن لا يمكنك مساءً فرز عاثري الحظ من المحظوظين.

لا بهجة ولا مسرات، ولا حتى صداقات ذكية. نغادر بعضاً مهمومين بأشياء غير واضحة، ونجابه جميعاً تهديدات مبهمة.

قررنا يوماً أن لا نخزن، وحاولنا التجوال بمزاج أناس تخلصوا ببساطة مما يعكر مزاجهم، غير أننا لم ندرِ أين نذهب؛ لا يوجد مسرح، لا يوجد نشاط مسائي يمكنك الانضمام إليه، مكتشفاً أن هناك في صنعاء ما يمكن القيام به غير البلاهة.

على مدى سنوات وأنا أتحاشى الحديث عن الكآبة في مقالاتي، حتى لا يغمغم أحدهم: "هذا يكتب عن نفسه وعن المزاج"، وحتى لا تتردد كلمة "كآبة" في ذهني، ورحت أكتب عن كل شيء، إلا عن غياب البهجة في حياتنا.

تصادف أحدهم في لقاءٍ عابر وتسمع منه كيف أنه لم يعد قادراً على الفرح، وكيف أنه لا يدري لم هو غير قادر على الفرح.
وتعرف من خلال طريقتنا جميعاً في قضاء أيامنا بدون موسيقى ولا حب ولا صداقات ذكية أن ذلك الرجل يريد أن يفرح بدون ملامسة أي شيء مفرح.

من أين يأتي الفرح وأنت تمر مساءً بأشياء من قبيل "أبو عادل للخراطة" و"اتصالات أبو حرًوب" أحدهم يلحم صدام شاص وتسمع في البوفية المجاورة من يقول بصوت منفر "واحد شاهي حليب".

الممرات مقفرة، والطريق إلى البيت مزدحم بأصحاب بقالات أمامهم ولاعات وأنصاف باكتات كمران، تشعر أنهم على وشك أن يفلسوا كل مساء تمر بهم.

ما جدوى حياة المدرسين في القرى والريح، وهم على الدوام يفكرون في الطرق الملائمة لتوزيع الراتب.

الراتب دائماً لا يكفي ليشعر المدرس بأمان ولو ليوم واحد.

لا زلت أكتب وأنا أدافع فكرة "عادية الموضوع"، وأتصور أناساً أخذوا على عاتقهم أن يكونوا عميقين ومتابعين للمقالات المهمة، وكيف أن هذا غير عميق وغير مهم. قد لا يكون هناك من ينتظر منك رؤى مهمة أو عميقة. وأنك تفترض على الدوام أولويات آخرين إلا أولوياتك أنت.. هكذا يتصرف أغلب اليمنيين، حين يتجولون في أذهان بعضهم للقيام بأكبر عملية تشويش جماعي متبادل.. تشويش يتجاوز مسألة القمع أو التطفل وعدم احترام الخصوصية والفردية، يتجاوز هذا إلى نوع من نشاط عدواني لا إرادي يقوم به أناسٌ يسحقهم السأم. أولوياتي أن أفرح وأسافر وأقوم بالأشياء الجيدة بدون مرابطة ولا تضحية.

أحب الملابس والعطور، وأن تكون صنعاء قادرة على تقديم مسرات. وبودي لو أسمع طريقة جديدة في العمل الثقافي، كالكتابة عن الأطعمة والنكات السخيفة.

وفي كل مرة يحاول أحدنا إدانة قبح الأيام وتعداد مزايا الخفة والموسيقى. يحضر الفقراء كمهمة مقدسة لا ينبغي أن تسقط من أي حديث جاد، وكأنك مبتذل يحاول الضحك في جنازة دون مراعاة لمشاعر أهل الميت.

يبدو أن أي محاولة للحياة في اليمن هي استفزاز لكل ما هو أصيل وعميق في ذهن بلادٍ تشبه عانساً معقدة.

كانت الأغنية في التاكسي قد بدأت ذات يوم تبدد حالة انقباض ما قبل العصر، غير أننا مررنا بمقبرة حزينة فأسكت السائق الأغنية احتراماً للموتى. عادت الأغنية بعد المقبرة بقليل فسمعنا أذان العصر، وقام السائق بإطفاء صوت المسجل احتراماً للأذان. بعد قليل صادفنا رجل وقور يقرأ مقالاتي وكنت أصافحه من نافذة التاكسي في وقفة الإشارة، وأطلب إلى السائق إيقاف المسجل احتراماً للرجل.

في باب الجامعة يسيرون مثل جموع في فيلم رعب عن موتى تحولوا إلى مصاصي دماء والفتيات تحذير متكرر لكل شيطان يتجول في زحام باب الجامعة.

أصدقائي يشكون التهاب المثانة، ويحدثك أحدهم عن ما بعد الموت تمام الخامسة قبل المغرب، كان منشغلاً بالدود في القبر، وبواجبه تجاه واحد أصيب بالسرطان.

لسنا أقوياء بهذا الجلد في رجولة تحمل القبح والسأم.

لا نباهة ولا ذكاء البتة في طموح أحدهم بالنفوذ والتفكير بالسيارات الفارهة، والأراضي والعمارات وحسن السمعة، دون أن يخطر له شيء من قبيل أن يكون سعيداً، دون أن يكون بالضرورة على هذا القدر من الفطنة والذكاء. رجل الأعمال الذي يكسب كثيراً دون أن يشتري لوحة واحدة أو أن يحضر مهرجان الطماطم ورقصات النبيذ، هو رجل غبي، غبي يوقع شيكات.
لقد أعلن الممثل الأمريكي "شن بن" أنه يصبح تعيساً بعد كل فيلم يقوم ببطولته، وأنه كره أن يفني نفسه لأجل توفير أسباب العيش.. أظنه يحصل على ما لا يقل عن عشرة ملايين دولار عن كل فيلم ولا يشعر بالرضا.

أتدرون؟ لقد تآمر على حياتنا جملة من المؤذين: التراث بحكمه الأثيرة عن الرضا، والعائلة بقيودها، وكلمة المروءة، وهذا القدر الكافي من شخصية البغل في أعماق كل منا.

هذا الرضا اللعين يجب أن يقوم أحد ما بوضع حد لوجوده.
من يملك الشجاعة الكافية لقتل البغل؟!

صحيفة المصدر
1 إبريل 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق