الأحد، يونيو 13، 2010

لا أحد يهرب

محمود ياسين
sayfye@gmail.com

المقالات التي كتبتها لم تكد تغير أحداً. لم تجعل مدرساً في ريف يريم يمزق دفتر التحضير ويصرخ بكراهيته للحصة الأولى ولظروف المدرس وكراهيته الشديدة للنافذة الغربية في الصف، وأن يقول لنفسه: أكره برد النافذة الغربية، أكره برد يريم في انتظار خمسين ألف، أكره هذه البدلة الرمادية المهترئة، لم أعد احتمل آثار الطباشير.

أنا لا أكره العلم، غير أن لا أسوأ في اليمن من قسوة العلم، لا أسوأ من معادلات الفيزياء في حجة.

وأي قسوة أكثر على الكاتب من تردده في دعوة طلبة الثانوية إلى تمزيق ملخصات الرياضيات.
فكرت ذات يوم دعوتهم إلى رفض دخول قاعات الامتحانات.

إنه يدخل القاعة أعزل في اختبار غير عادل، والعلم بالنسبة لعاثري الحظ يتحول إلى حالة رياء وتورط أكثر فأكثر في إثبات ذات ستخفق لا محالة.

الحقيقة أشبه بالفانتازيا، وإلا لحلمت أن يتجمع دافعو العربات المتجولة في رأس جبل نقم، ويدفعونها مرة واحدة والتوقف عن هذا التعب. التوقف عن الصبر والرزق القليل، التوقف عن التضحية لأجل العائلة، التوقف عن ترويض اليدين على ملمس العربة، ذلك الملمس البارد الذي يسحب عبر اليدين كل الذي في الروح من إرادة البهجة والعطش.

تأتيني بعض الردود أحياناً، وكيف أنني أتحدث عنهم وكأنني أعرف كل ما يختبرونه يومياً مع الخيبات وسلسلة المرارات، وذلك الشعور الدائم بترصد الخذلان. وأفرح من جانبي بشخصية الكاتب الذي "يغور في أعماق النفس البشرية"، وأتورط أكثر في لعبة الغور هذه مدعياً أنني أصبحت ذلك الكاتب "كلي القدرة" وفقاً لسوزان سونتاج التي أبدت احتقاراً ما لهذا النوع من الادعاءات الروائية، حيث يحاول "كلي القدرة" هذا إقناعك بإدراكه المطلق لطبائع الشخصيات وأن هذه هي الحياة. نتبادل هذه الطريقة في الحياة على حساب الخداع، حين يتحول العلم إلى ضرب من التحاذق الذي يجيده شهداء المعرفة، الكتاب السيكلوبيين في عالم ثالث، وفي دولة كاليمن لم أسمع أن وزيراً ما قد بنى قراراً ما على رؤية ثاقبة لكاتب ما. إذ لا أحد يبحث عن ملاذ وليست الحلول هدف أحد.

لكأن الكتابة نوع من تبادل الشعور باللاجدوى، وكأن الشعور باللاجدوى يبعث على الاطمئنان ربما، أو أن مدرس ريف يريم الافتراضي، لا يبحث عن الخلاص، ولا يقوى على خلع بدلته الرمادية بقدر ما هو بحاجة إلى تأكيد أنه ليس وحده.

يريد صوتاً ربما يسمعه أهله الضاغطون على أعصابه دوماً، يخبرهم هذا الصوت أن كل المدرسين لا يستطيعون شراء الكمية الكافية من حليب الأطفال.

كتبت كثيراً، آراء مهمة فيما يبدو، ووصل للرئيس شيء عن أننا نعمل جاهدين لإغضابه، وكتبت عن عبدالوهاب الآنسي، وكان ينظر إلىّ بما يشبه العتب.

نصرح ونقول أشياء كثيرة لا أدري أين تذهب، ولا يترتب عليها شيء. وحين يصرح (حسين الأحمر) يحصل على ردات فعل.

الفكرة الأخيرة طارئة على الموضوع وكان أصل الحكاية أنه ما من سبيل لتغيير حياة الناس، على حساب المعرفة، والاتكاء على التحريض الوجودي ضد الظروف السيئة.

نقرأ عن أناس قفزوا من فوق السياج ليلة زفافهم، زوربا اليوناني مثلاً، وحكايات عن تحولات في أوروبا أحدثتها أفكار وكتب. نسمع عن امرأة قرأت عن حقها في مغادرة سجن الزوجية، وكيف أنها صفقت الباب وراءها تمام الثانية عشرة منتصف الليل مؤذنة بموجة صفق أبواب في كامل أوروبا.

أخبرني أحدهم رأيه بطريقتي في التفكير بطريقة غير برتوكولية البتة، قال إنني متشائم جداً، ولا أكاد أؤمن بالله، أخبرني ذلك أثناء فراره من جملة ظروف سيئة لم يتسبب سلوكه بأي منها.

لقد ورث كل الأحكام المؤجلة من أيام شريعة أبيه مع شيخ بلادهم، ورث ثأر دم قام به أحد أبناء عمه، وهرب من غضب الله وسخطه لأسباب لا يذكرها، وفي ثنايا حديثه ألمح إلى أنني أدعو إلى حرية الفوضى وأظنه أورد كلمة الانحلال.
وكأنني في مقالة ما قد دعوت لتأسيس أندية للعراة.

كان قاسم هزاع يغادر قريته في ضواحي إب كل خميس ليشتري الصحوة ويقرأ زاوية (من حكاياتهم) لطالما أحب قاسم معرفة المزيد من خيبات الناس. وطريقة الصحافة في رثاء عاثري الحظ، وأتصوره يقرأ في مساءات قرية النوبة، وأتصور دموعه تفيض.. هل أطلب إلى قاسم تحويل عمودي إلى إلياذة خروج ومقاومة ميثولوجيا القدر؟

لا، لقد اكتفيت من جانبي بكون دموعه تفيض.. لا أدري لماذا أفكر على الدوام في أمريكا، وأقترح أن الجدوى الوحيدة المفترض بمقالاتي إنجازها هي في دفع المتضررين إلى قذف ما في أيديهم والذهاب إلى أمريكا.
ويخطر لي أن أحدهم في رواية ما، فر إلى أمريكا سعياً وراء حريته واكتشف هناك أن أمريكا دغل جديد، فأحجمت عن هذا المقترح.

لا أحد منا سارتر، ولا أحد في الأرجاء يتألم على الطريقة الفرنسية ليكون ما ينقصه هو سارتر ونهمه الوجودي فيحصل على خلاصة من دماغ فيلسوف. نحن نتألم كما يفعل رجال منطقة الشرق الأوسط كلها، نتألم في معرض فلكلور للألم والالتزام الأخلاقي بكل شيء، إلا بحق الإنسان في الهرب.. من يكتب عن عوانس الصدور التي تشعر بالخزي، عن نمط حياة منذورة للنفي واللاإدراك، فتيات لا يدرين على وجه التحديد لم أصابتهن كل هذه القسوة.

ومن في اليمن يمكنه الافتراض، ولو لوهلة، أن فتاة يمنية ستجد طريقة ما للتوقف عن البكاء كل ليلة..

لا شيء يفضي إلى شيء، والمعرفة لن تنقذ مدرس يريم.

صحيفة المصدر
14 إبريل 2010

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــ


معلم يريم يرد على محمود ياسين:
هناك من هرب!

الأخ محمود ياسين.. من قال لك إن المقالات التي كتبتها لم تغير أحداً!

التعميم يا عزيزي لا يجوز. قد تتعاطف مع ما يدور في ذهنك ويسري في خاطرك من مشاعر قاسية تمارسها على نفسك، ومن واقع مضنى أجبرك على البوح بشعور كهذا، لكن الحقيقة التي يجب أن تعرفها أنك جعلت مدرساً من ريف يريم يمزق دفتر التحضير، لأنه وجد أنه لا فائدة في التحضير، ولا جدوى للمتحضرين في بلد تسوده سياسة التنظير. صرخت بكراهيتي للحصة الأولى ولظروف المدرس. كرهت النافذة الغربية في الفصل، والنافذة القبلية في القرية. كرهت برد يريم في انتظار خمسة وأربعين ألفاً. كرهت بدلتي الزرقاء التي اشتريتها من أول راتب. لم أعد أحتمل آثار الطباشير بعد ما سببت لي الكتابة عن نهب الآثار في المنطقة الكثير من المتاعب والآلام.

أنا لا أكره العلم. غير أن لا أسوأ في اليمن من قسوة العلم. لا أسوأ من "موفيم" و"فونيم" لغة العصر عند شيخ جائر يستكثر عليك كلمة "معلم" ويرى فيك مجرد "مقّري".

وأي قسوة أكثر على مدرس يريم الحقيقي من تردده في كتابة مقالات صحفية، خصوصاً وقد التزم لأنصار الجهل ودعاة الأمية بالتوبة والاستغفار عن هذا الذنب.

فكرت ذات يوم في توعية الناس بحقوقهم، عرّفتهم، حرّضتهم على عدم دفع الإتاوات والأغرام القبلية التي أنهكت كاهلهم، فكانت النتيجة حرماني من التدريس في مدرسة القرية.

إننا نعيش في بلد غير عادل، والعلم بالنسبة لمن قرر التقرب منه أو حصل على وظيفة بفضله أصبح وجبة وهم يتهافت إليها كثيرون، سرعان ما يجدون أنفسهم في مصيدته يتورطون أكثر وأكثر، ويفشلون في إثبات أنهم –مثلاً- مدرسون. يفشلون لأنهم لا يعون ما تعيش الشعوب من العيش الكريم. يفشلون نهاية كل شهر ويتوارون عن أصحاب البقالات وتجار الجملة، يفشلون عند مقارنة أنفسهم بمن سواهم ممن تركوا التعليم وتاجروا بالقات، فلا سبيل إلى المقارنة في بلد يحترم المقوت ويستكثر على المعلم ما يعطي له من فُتات المبالغ.

الحقيقة أشبه بالفانتازيا، وإلا لحلمت أن يجتمع مدرسو المدرسة ولو لمرة واحدة معلنين إضراباً ينتزع حقوقهم، ويحافظ على ما بقى لهم من قدر واحترام سلبته يد شيخ أو قذفت به لسان نافذ: التوقف عن خنوع وخضوع الرعية، التوقف عن ممارسة ثقافة "من عاش مداري مات مستور". التوقف عن ترويض الأجيال بفكر التبرير والمهادنة، ولو على حساب حقوقهم وأمانيهم المشروعة.

محمود.. نعم قد تأتيك بعض الردود وهذا واحد منها، وكيف أنك تتحدث عنا وقد علمت فعلاً بعض ما نختبره من الخيبات وسلسلة المرارات لأنك واحد منا، قريب من معاناتنا، لأن قلمك –ككاتب- لا يختلف عن مشرط أو سماعة طبيب ماهر يشخص الداء ويصف الدواء.

محمود.. افرح بشخصية الكاتب الذي يغور في أعماق النفس، فأنت كذلك. قد نتورط نحن في الكتابة إليك. قد نقحم أقلامنا الشبيهة ببدلاتنا عند الاقتراب من أسوار إبداعك وسمو أفكارك، لكنك تظل أنت الطبيب المداوي.

نعم! لم تجد يوماً وزيراً في اليمن قد بنى قراراً ما على رؤيا ثاقبة لكاتب ما، لكن هناك كثير من أبناء جلدتك من هم على شاكلتك، وإن اختلفت الأحجام وتعددت المقاييس. ولتعلم أن ثمة سبيلاً لتغيير حياة الناس على حساب المعرفة والاتكاء على التحريض الوجودي ضد الظروف السيئة، فأول الغيث قطرة، ومسافة ألف ميل تبدأ بخطوة.

وتحولات أوروبا لم تكن نتاج لحظة عابرة أو صدفة ساقها الدهر بقدر ما كانت نتيجة حتمية لمعركة تغيير دامت وطالت دهوراً. نعم، نلمس في مقالاتك بعض التشاؤم، لكنه ذلك المحمود، ذلك الرافض لاستمرار العيش في براثن التخلف، ذلك المنادي إلى ساحة العيش الكريم. نعم لقد تورطت في الكتابة إليك لإحساسي أن من يكتب إليك يجب أن يقرأ أولاً كل الروايات العالمية الشهيرة، أن يكون على دراية بأدباء ومشاهير نالوا جائزة نوبل، غير أني ألتمسُ العذر وأقول لك: هناك شيء يفضي إلى أشياء، والمعرفة حسبك منها أنها قد أنقذت مدرس يريم الحقيقي.

الحمدي صالح حلبوب

صحيفة المصدر
2010-05-22

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق