السبت، أغسطس 14، 2010

مثقف ليبرالي – يرتدي "قبع" *

محمود ياسين

أراقب أحمد ضيف الله العواضي وهو يردد –مرحبا- شد حزامك- وأشياء لها علاقة بالكرم والوفاء والنجدة، ناهيك عن ارتدائه للجنبية والقبع، فذلك هو ما كان يرتديه منذ مراهقته في القرية، هذا وصف عادي جداً لرجل يمني يشاهده أغلبنا في كل مكان. غير العادي هو أن يكتب هذا الرجل قصيدة التفعيلة ويتردد اسمه غالباً في دنيا الحداثة. مطبوعاتها وعلى ألسنة مجموعة الشعر الحر والانحياز الإنساني للحقوق وضروب الضعف والتمييز. وعندما يقوم أحمد ضيف الله العواضي.. بدعوة أحدهم للغداء، فهو يقوم بذلك على طريقة قريته، يصر ويلح ويبدي أخلاق وإيماءات (خادم الضيف) ناهيك عن ان يقطع أحمد وعداً على نفسه ويخبط على صدره مشيراً لفكرة الرجولة والمروءة. أظن أحد مرتدي الجينز في حال كان قريباً مما يقوم به العواضي آنفاً. سيكون كمن ألقى القبض على الأخير في موقف غير حداثي البتة. أي شاعر تفعيلة هذا الذي يتصرف وكأنه غالب بن صعصعة على باب خيمة البداوة الكريمة والرجولة غير الهيابة. في مقالة طويلة لعزيز العظمه نشرتها مجلة (الثقافية العالمية) ترجمة عن دورية متخصصة لا أذكرها. أشار العظمة لما أسماه تقريباً –حالة تورط بعض النخب في امتداح أخلاق البداوة- وكيف أن ابن خلدون هو بالتحديد من أثنى في مقدمته على رجولة البدو غير الهيابة. وكيف أن بعض النخب الإعلامية في الولايات المتحدة ذاتها تتورط عاطفياً في تملق الأصولية بمعناها غير السياسي. يقصد ربما إبداء الشغف تجاه كل ما هو قديم ومتجذر على أن كل ما هو قديم هو بالتالي نزيه ومنسجم. أكد العظمة في تلك المقالة أن ثمة نخبة تقتات الوهم. ذلك حديث آخر لا علاقة له بما نحن بصدده ولا بنموذج العواضي، فهو يقوم يقوم بكل ذلك دونما حالة وله بكل ما هو قديم بحثاً عن الانسجام. ولا شيء يشير من قريب أو من بعيد لكون العواضي قد سئم الكمبيوتر وربطة العنق فحاول البحث عن الاسترخاء في أخلاق البداوة التلقائية. هل أقول. أحمد بدوي أصلاً.؟ في مستوى ما أظنه نعم. لكن المهم هنا ما يمثله المثقف الليبرالي بجملة عاداته وتفضيلاته بحالة تفصح عن عمق أزمة فرز الجغرافيا السكانية بمعايير الثقافة والمدنية. لقد ارتبطت مؤخراً -حداثة القصيدة الحرة بالحقوق المدنية- والتخفيف من إيماءات الرجولة والشجاعة. . كم مرة توجب علي شخصياً تفسير لم أنا كاتب رغم الجنبية وأحياناً القبع. اعتبر أحدهم طريقة اللباس هذه نوعاً من تفسير (تبعية المغلوب لغالبه) مع أن الأمر لا يعدو كونه طريقة متبعة في ريف إب. أيام المراهقة قبل أن يكون أحدنا حداثياً وما شابه. أيام ترتبط حالة انتشاء وحضور قوي بعد عصر أحد أيام العلان. ترتبط بكون أحدنا كان يرتدي "المعوز" والجنبية وقميص نص كم وأحبه شخص ما بذلك الزي وأعتبره حالة من قرب أحدنا إلى نفسه.. كنت أرتدي الشال (القبع) وحلفت أنني الكاتب وأنا أتفهم في نفس الوقت دهشة رجل كان يقرأ مقالات فيها حديث عن الموسيقى وأسماء غريبة وكلمات من قبل الوجودية وبعضاً من عروض هوليود المدهشة. ارتبطت تلك الأشياء ربما بالبنطلون وذلك مقبول إلى حد ما غير أن الرجل أفصح عن الخدعة التي قمت بها بحقه وهو أنني بذلك النوع من المقالات والمقاربات جعلته يعتقد أنني من ناحيته، أظنه استخدم (من قدانا) ورغم أنه من ريف لحج إلا أن (من قدانا – أو من ناحيتنا) بقيت ترن في ذهني على أنه قال (من صلينا). ربما لأن الذهن أحياناً يساوي بين أشكال التعبير المناطقي ويضعها في نغمة واحدة. لقد بقي رموز اليسار التقليديين أوفياء للفوطة والشميز، وتحول زي مناطق ما كان يعرف بـ(منزل) بالثقافة والكتب وممانعة أشكال الاستحواذ البدائية. واحتقارها... وتم استبدال المسألة مؤخراً ببنطلون الجينز. وأعراض السهر وحالة تبرم عميقة يستخدم عبارات مدهشة، بالغة التهكم والقسوة... شخصياً لم أتمكن إلى الآن من الفصل بين القبع والبداءة، ولا أدري لماذا. ويمكن هنا التساؤل عن من يسبق الآخر. طريقة التفكير أم طريقة اختيار الملابس؟وهل تستدعي وضعية الجنبية والشال سيكلوجيا الرجل غير الهياب. ؟ وإيماءات (من عيني وفوق رأسي) ضمن استسلام لا واع لتراتبية الجسد وتراتبية منطق (أبناء الناس). أم أنه في بعض الحالات يكون نمط التفكير وترتيب الأولويات نتاج للزي. على أن هذا النموذج الأخير يتجلى أكثر في شخصية أبناء المناطق الوسطى. المتأرجحين بين طريقتين للتعبير عن شخصياتهم ليست أياً منهما متجذرة، ولا يترتب على أحدهما مستوى وجود معين في بيئته القديمة. أظن ردة فعل مجموعة صحفيين من إب وتعز كانت لتكون مختلفة إزاء استقواء أحد الناس عليهم بسبب بنطلوناتهم وبالتحديد الذين ينتميا لأطراف إب من جهة منطقة التماس مع ما كان يعرف بـ(مطلع). البنطلون في تلك الحالة يجعل مثقف من تعز يستعلي على عدوانية القبع بينما يفكر مثقف من إب لو أنه كان يرتدي الجنبية لكان ذلك أفضل يبالغ الحداثيون في تحديد مسافة القرب والبعد من ما يفترض به حداثي هو الآخر. وفقاً لنوع ملابسه.ولمستوي تعبير سلوكياته عن طباع منطقته . لنأخذ نبيل سبيع نموذجا . مثقف حداثي من منطقة آنس وملتزم في سلوكياته بمقربات الحداثة كسلوك يومي وملابس وقناعات فكريه يرددها في تواصله الثقافي مشافهة وكتابه .ولم يحدث أن قلل أحدهم من مدى حداثة سبيع بسبب انتمائه لمنطقة آنس .غير أن الاستشهاد بحد اثة سبيع مع أنه من آ نس تشبه تماما ذلك الاعتراف الذي قام به سائق تاكسي لأجل راكب من إب .عندما ردد بإنصاف :وإب فيها رجال .. تتجلى طريقة مثقفين معروفين هم بحاجة للمران على الحداثة في حالة عدوانية شديدة. تعتمد منطقاً له علاقة بالتجديف والإحالة على تاريخ الاستقواء ونفى الآخر المتمدن، على أن ذلك كله حدث بمباركة ذلك النوع من الأزياء والأردية، وضمن حالة إيمائية هي في الأخير حالة نخيط. أقرب منها إلى كونها مجرد إشارة للالتزام بالوعد. الغريب أيضاً أنه لطالما مرت أحاديث القطيعة بين القبع والحداثة، بشكل عادي ربما على سبيل السخرية أو رثاء وضعية معينة بدون ضغائن. غير أن احتدام ملامح حداثي وتهدج صوته إزاء بوادر أن يصدق الحاضرين أن مثقف "القبع والقرحة" هذا معنى فعلاً بالقيم الجمالية. حتى أنه أقسم أكثر من يمين على أن كل ذلك الكلام قد قام الرجل بحفظه عن ظهر قلب. وأن هذا العرض المدني الذي قدمه (القبيلي) هكذا وصفه إنما هو ضرب من المغالطه. كان جاداً على درجة من الجدية الرهيبة. مما دفعني لاعتقاد أن ثمة مذابح بنطلونات جينز قد حدثت دون أن أعلم بها. من أين يأتي كل هذا العنف النفسي؟ في حالة فرز المدنية والليبرالية عن شكل البداءة والاستحواذ. ووفقاً لمعايير من ذلك للنوع الذي تحدثنا عنه كثيراً. أي مثقف يقترب بملابسه التقليدية هو في أحسن الأحوال وأكثرهن تفهماً هو مجرد رجل خرج من مقدمة ابن خلدون. وربما قرأ روايات نجيب محفوظ ويحفظ للبردوني . غير أنه لا يستطيع في الأخير إيجاد ذلك الرابط العميق والدقيق جداً بين إيحاءات التعبير الإنساني في أكثر صوره التزاماً بفكرة الإحساس، وبالانحياز للمدنية وفقاً لمنطق الحداثة القاطع المتداول بيننا.
يمكن القول أنه من خلال حالات يتم استحضارها هنا من خلال التجربة هو أنه المثقف (مرتدياً قبع) لايمكلك الحق في الانتماء حتى للتراث، ذلك أنه - وفقاًللمنطق الحداثي المفترض- مجرد رجل من منطقة غير حداثية.

* المادة نشرت في العدد السادس من مجلة صيف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق