السبت، أغسطس 14، 2010

وجه يمني يبحث عن قناع *

محمود ياسين

جيل من النافذين الجدد يتصرفون كمجسمات في معرض وجوه يحكي هذا المعرض قصة ملامح رجال القيصر.. أخبرني أحدهم أنه أحياناً يغادر المقيل ليريح وجهه في الحمام ويمنحه دقائق يتصرف فيها على سجيته، وكيف أنه يتحاشى النظر إلى المرآة المثبتة فوق المغسل، بعدها يشد ملامحه ويعود للمقيل ليبدو واثقاً.. وقال لي أيضاً: سئمت الحياة في وجهي. لذلك تلاحظ ذلك النوع من تبريرات السهر وأحدهم يبرِّر: لمَ هو بلا ملامح قوية، وكأنه ينبغي للجميع لعب دور تماثيل إغريقية تحدث في جبل الأولمب بكامل حضورها اللاهوي الصارم.. يمكنك دراسة الوجه في مطبوعة متخصصة عن انثروبولوجيا الجسد والحداثة، حين يحضر الوجه باعتباره حالة تفصح عن وضع مجتمع مختلف ابتداء، وذلك الاشتغال على تراتب الأعضاء ضمن إدانة للثقافة التراتيبية وما شابه. نحن هنا بصدد الوجه اليمني المشدود على الدوام الذي يتحوَّل في المقايل ضمن مهمة إخفاء الحقائق المفترض بها حقائق تشي بالوهن. وأن تصرفاً خاطئاً للملامح ستكون عواقبه وخيمة. كل إنسان في هذا العالم يجب أن يكون حاضراً. وجهه مشرق يفصح عن حالة نوعية من الاكتمال.. سياسيون جدد وأبناء عائلات تجارية ومثقفون يخوض جميعهم معارك يومية بوجوههم ومعها. وعندما تحدق في أحدهم يبادر إلى تنبيهك أنه سهر البارحة.. يعني هذا ليس أنا كما يفترض أن أكون.. وبالتالي يتحول الوجه إلى قناع هو الآخر. ولم يحدث في حياة أغلب هؤلاء المتحوِّلين الجدد أن أخذ الأمر على محمل بسيط رعوي -أو رجولي بدائي- على أن الرجل بأفعاله وليس بملامحه ولم يكن رعويٌّ ما ليأبه يوماً لما يفصح عنه وجهه في مقيل. أو أن يفكر رجل أعمال ما بطريقة غريبة ويفصح عن حالة حسد لأحد موظفي المخزن إلى جواره والتمتع ساعتها بوجه منتشٍ ومتناغم.
جيل من الحاذقين الجدد عليهم الظهور دائماً بكامل وجوههم المشرقة والجاهزة للحضور في كل مقيل بدون شرود ولا هالات حول العيون. يمرِّر إليك صاحب معرض كريمات في شارع القصر قائمة بأسماء عدد من زبائنه السريين الذين يوفر لهم المعرض أهم منتجات الماكياج الرجالي..ويتحدث سياسي بحسد واضح عن العراقيين المحظوظين بتلك الوجوه الطرية. لسنا هنا بصدد سرد تفاصيل ما يشبه حالة فضائحية عن أناس يفترض بهم أن يكونوا نافذين على درجة من النضج ويسعون وراء الملاحة. غير أن جدية الموضوع من كونه مقاربة لمجموعات من المتحولين الجدد، الذين تؤرقهم على الدوام فكرة الحضور ومستواه، وبالتالي إلى أي مدى يمكنهم الاعتماد على وجوههم المسؤولة الأولى عن التعبير عن مستوى هذا الحضور. عندما تتجاوز الساعة الخامسة قبيل المغرب تأخذ العين اليسرى للمتحوِّل المرهق شكلاً دائرياً ويبدأ قلق في الانقضاض على علاقة آنفة بدرجة انتشائه بالقات من عدمها، حتى أنه يتهادى شيئاً فشيئاً ويدعي الاهتمام بشيء آخر، مديراً وجهه نحو أيِّ شيء لا يحدق في وجهه أي شيء مصمت، لا يمكنه التقاط حالة القلق وهو في هذه الحالة من مقاومة أن يطفو أي شيء ضعيف أو مرتبك من أعماقه إلى وجهه. وكأننا ساعتها في حالة حرب باردةٍ بين الوجوه.. لدرجة أن أحدهم يتسامن كلَّ مقيل ولا شيء أعز إلى نفسه من أن يقول له أحدهم: (سمنت- معك ضُجَنْ). وكأن العالم لن يقبل به بغير هذا الوجه السمين..
غالباً ما يجد المشتغلون بالإبداع طريقتهم الاستثنائية للاستعلاء على هذا المأزق من خلال نصوص تعمل على ثنائية القناع والوجه.
أحدهم يرتب كلَّ مسرحيات وروايات الوجه في قائمة أولى على رأس اهتماماته معيداً عليك قراء (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) مسرحية لويجي براند للو، بأكثر من طريقة، على أن تكون كل واحدة من هذه القراءات ملائمة للحالة التي هو عليها. وكيف ينبغي للإنسان الاستجابة من عدمها لمأزق وجهه الذي يحدد أو لا يحدد في تلك اللحظة مستوى وجوده الإنساني وطريقة إفصاحه عن هذا الوجود.


* نشرت في العدد الخامس من مجلة صيف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق