الاثنين، سبتمبر 23، 2013

شيبت


محمود ياسين

قبل يومين في صالة عرس أخبرني أحد زملائي من أيام وكالة "سبأ"، أنني شيبت، فأمضيت بقية اليوم أقاوم مظاهر الشيب، كأن أجلس هكذا منتصباً قليلاً، ثم أقترح على نفسي بعض الأنشطة الشبابية، وأسمع أغنية "يوم الأحد في طريقي"، على أنها أغنية شبابية مراهقة، كأن يسير يوم الأحد وهو ماشط شعره لجنب ولابس جزمة كعب، ولكن دون جدوى، إذ بقيت كلمة زميلي العلفي تتردد في ذهني مرتبطة حروفها "الشين" تحديداً ببياض شعيرات في جانب رأسي، وبعضها في شاربي، ولا أدري كيف غفلت هذه المرة عن تنبيه الحلاق لنتف تلك الشعرات البيضاء، كما أفعل عادة. أشار لي أيضاً قبل أن أجلس أنني أسير محنياً بدرجة ما، مما أفقدني جزءاً كبيراً من وجدان الطالب الثانوي الذي لا يزال يلازم حركتي في هذه الحياة.

لا أحد يجب أن يكبر، ناهيك عن أن يكتهل مبكراً، حتى ولو عزّى نفسه بأن ذلك بسبب هموم الوطن، ذلك أن الشيب مناقض لفكرة الجمال نوعاً ما، وأياً تكن مزاياه من نضج وعمق وما شابه، فهي لا تساوي شيئاً أمام القيمة الزمنية لبهجة أوائل الثلاثينيات أو منتصفها، ولا أمر على القلب الذي لم يطعم الحياة كما يجب، من دخول الأربعينيات هكذا فجأة حتى ولو تذكر أن بعض المراهقات يفتنهن الشعر الأبيض في مقدمة رأس رجل أربعيني، فذلك لا يعدو غالباً عن كونه حالة هرب من مزاج الحبيب المراهق المفتقد الخبرة والنضج، ليتحول أحدنا لملاذ متخيل وبديل مكتمل لعاطفة غير مكتملة.

تساءلت على طريقة بنريتي (الروائي اللاتيني) في روايته "الهدنة"، وهو يقول بعد الأربعين: ما الذي فعلته بحياتي؟

فكرت في مقالاتي الكثيرة، وبدأت أحصي ما فعلته بحياتي على طريقتي، وقلت لنفسي: "مقالات مهمة وكتاب مدن لا يعرفها العابرون، ورواية وأخرى توشك على الاكتمال".

كانت وجوه مجموعتي الزمنية قد تواردت تباعاً طيلة مساء "الشيب": ذي يزن وعبدالله طه وخالد أحمد والدميني وعبدالفتاح.. وأتيقن أن المجموعة اكتملت كلها، وربما بوتيرة متسارعة، تجاوزني فيها بعضهم حد الموت، كما فعل عبدالله طه الذي بقي يقاتل بضراوة وهو كان الشرس فينا، يعمل ويدرس الثانوية، ثم في كلية التربية وهو يعمل، ويكتهل بسرعة، وأصبح معلماً للرياضيات، لا يدري أن السرطان يتسلل في خلاياه، ليهدأ عبدالله أخيراً، وهو الذي لم تمنحه هذه الحياة كما منحت بعضنا، ولو القليل من الوقت ليتحامق أو يؤجل شيئاً.

عندما تمليت وجه ذي يزن في الصورة الأخيرة التي التقطت له في الموقع العسكري قبل أن يستشهد في صعدة، بدا لي أكبر بكثير مما هو مفترض. كانت قد نشأت له صلعة في مقدمة رأسه، وكأن بينه وبين هذه الصورة سنوات كثيرة منذ أيام مدرسة النهضة، حيث كان ذي يزن أصغر فرد في المجموعة، وأكثرنا أناقة وطراوة عمر غنائي شديد الحضور.

هاجر خالد إلى السعودية، وها هو يراكم النقود الكثيرة، ويتصل بي متمسكاً باستماتة بكل تلك التفاصيل لتسكعنا في شارع تعز أيام السندوتشات، والتفكير المحرم في ما الذي سنفعله بحياتنا. هو خالد تعريف "صديق العمر"، ولا علاقة لعمرنا الآن إلا بالذاكرة وهي تتمسك بظروف الماضي الظريفة المحببة، وتلك التفاصيل، ويقال إن الذاكرة الخضراء تعريف لشيخوخة مبكرة.

أنا حقيقة لم أكتهل البتة، ولا أشعر ببوادر هذه المرحلة، فلا زلت في الـ39، وأقول لنفسي على طريقة جهاد الخازن، عندما وصل الـ60، وعزى نفسه بأنه على الأقل ليس في الـ70، فأقول لنفسي إن الفنانين الأكثر حضوراً وفتوة وجاذبية في السينما الأمريكية تحديداً، هم أكبر مني كلهم، ثم إن لدي هنا باسندوة وعبد ربه ومحمد قحطان والدكتور الإرياني والبيض ومحمد عبدالملك المتوكل، وبقية الطاقم الذي يوجه حياتنا العامة، متواجدين ليس بوصفهم فقط موضوعاً للنقد السياسي، ولكن على الأقل لأجل إحساس أحدنا أمامهم بعمره الغض.

أو على الأقل يمنحونك باستماتتهم هذه على التمسك بدور سياسي، وتمتعهم الغريب إلى الآن بالطموح، فإن ذلك كله يمنحك طول الأمل، وفكرة أن الحياة لن تضن عليك بالرغبة في الاستمرار ولو شارفت على الـ80.


نتقدم يا صديقي في العمر، ونكتهل، ولو أنكرنا، ولو حاول أحدنا تعزية نفسه بأنه أصغر من باسندوة المتفائل بـ40 عاماً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق