الأحد، نوفمبر 24، 2013

الــــروائي


محمود ياسين

تصل روايتك في الأخير للناس.

كنت أذرع شارع العدين متخاطراً مع كوني روائياً في المستقبل، أرتدي معطفاً رمادياً، وأتجول في الثلج أمام البيوت ذات الأسطح المثلثة. فلقد كان العالم الروائي المتخيل هو أوروبا والثلج والياقات الرمادية، وكنت ألتقط صورتي تلك من الخلف، ولم يكن ذلك الحلم يحتوي على أي جلوس في حرف الجبابب بالدنوة، ذلك أن الروائي كان في مخيلتي وجوداً أوروبياً، وكان المهم أنني أحلم، وبقيت أحلم، وكنت أحلم أني سأكتب لكم يا حالمون في جولة العدين والفرزات في اليمن، مقالة ذات يوم تبدأ هكذا: تصل روايتك في الأخير للناس.

اسمها "تبادل الهزء.. بين رجل وماضيه"، أخبرتكم عنها كثيراً، وكنت مؤخراً قد يئست لدرجة البحث عمن يقرضني تكاليف طباعتها على حسابي، وإذ برسالة تصل من دار نينوى للطباعة والنشر، بموافقتهم على طباعة الرواية، وبدا لي من خلال المحادثات بينهم وبين أحمد الطرس العرامي، صديقي الشاعر والأستاذ الجامعي المعروف، الذي أوصل لهم مخطوط الرواية؛ بدا لي أنهم متحمسون لها جداً، وأنني يبدو سأنجح، ولقد وقعت في الطرف الأيسر من العقد باعتباري طرفاً ثانياً، وشعرت وأنا أوقع أنني مؤلف، وتلاحقت في ذهني كل صور التسكع الحالم، وأنا أغافل القنوط وضروب الخذلان بتشبث استكلابي بصورة سأكون عليها روائياً مرحاً يجوب العالم طيب القلب، وقادراً على إنقاذ من يصادفهم، وكانت النساء المضيعات يصادفنني كثيراً في مزاج عالم متقلب أتجول فيه بحس روائي فكه ومستبصر بدنيا لا تعطي شيئاً سوى الوحدة.

أياً تكن ردة الفعل تجاه روايتي الأولى.. لا يهم، لقد قلت شيئاً ما أدرك صميمه الجواني كصوت لقلقي الوجود الذي لم يكن منذوراً يوماً للمجد، بقدر ما هو متيقن من أنه سيكون هناك آخر المطاف.

وأنا في هذه المقالة مضطر رغماً عني للهجة المبشر بالأمل على يقين من دناءة دنيانا هذه، لكن إياك أن تتخلى عن حلمك.

ما تتخاطر معه الآن يا صديقي، وأنت تبحث عن مصروف التروحة إلى حيث تنتظرك هواجسك ذاتها في ركن المساء، سيكف يوماً عن كونه مجرد حلم خطر لك، وستجده يوماً يمشي على قدمين، وقد تتمنى وأنت تراه حقيقة لو أنك ما يئست كل ذلك اليأس، وما حزنت كل ذلك الحزن، غير أن الأمر هو هكذا، ولا يحدث إلا هكذا.

لا يعني بالطبع أن دار نينوى بعقدها الذي أرسلته، ستعفي أحدنا من الحزن وضروب اليأس والخيبات. الزمن كفيل بك على كل حال، ويمنحك في كل مرحلة لعنة جديدة على مقاسك.

ما كان عليّ التفلسف هكذا بتشاؤم، فأنا حقاً سعيد ومتحمس لأبدأ باستكمال روايتي الثانية "قبل أن أقتل رويدا"، حتى إنني رحت أتساءل: أين تقع مدينة نينوى؟ ورغم هاجس الحرب السورية التي قد تؤثر على نشاط "نينوى"، أو تحول بينها وبين طباعة روايتي، إلا أن أحد الأصدقاء أكد أنها تعمل من فرعها في بيروت، فقلت: الحمد لله. ولم تعد الحرب في سوريا تهددني على ذلك النحو الشخصي.

يحدث أن نقترح لأنفسنا صورة وجودية ما، وهي كما هي بما تتضمنه من أمجاد أو عسف قدري مشؤوم علينا المضي إلى النهاية، وكل الذي نحن عليه الآن من إحباطات سيمضي هو الآخر، مفسحاً للخبرة الإنسانية أو الإدمان، إدمان كل شيء، الأحلام وغرابة الأطوار ومخاتلة عالم مختل، ليس بسبب حاجتنا للجناس في وصفه، لكنه مختل هكذا، وتأبط حلمك يا صديقي فيه، ويوماً ما ستكون هناك.

"تبادل الهزء" كانت أصلاً مخطوطة مبعثرة في حالة قنوط شخصي تركتها هكذا، وصادفت ولع الكاتب والقاص لطف الصراري الذي لا يجد الوقت أحياناً لتصحيح مقالته في صحيفة "الأولى" التي يدير تحريرها، لكنه شغف بالرواية، ومنحها ذلك الوجود المتكامل، وبذل جهداً هائلاً بدونه ما كانت "تبادل الهزء" لتصبح مخطوطاً قابلاً للنشر.


لطف فنان يذعن للإغواء، ويدفع ثمنه راضيا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق