الأحد، نوفمبر 24، 2013

عندما يغضب الدكتور


محمود ياسين

لطالما أحببت الدكتور ياسين..

من أيام ما كنت في الدنوة، القرية المرتفعة جداً بما يكفي لالتقاط تلفزيوناتها 17 بوصة، لبث تلفزيون عدن، وكنت أحسه في النشرات بشعره الأبيض وإيماءاته، قريباً من القلب، وربما كان للاسم أيضاً تأثيره في ذلك الود التلقائي أيام مراهقتي أواخر الثمانينيات، وكانت الوحدة لا تزال انفعالات مميزة يبثها تلفزيون عدن بإلحاح مضاعف على إيقاع إعادة بث أغنية أحمد بن أحمد قاسم "الوحدة اليمنية- يا شعبي أغلى انتصار"، وبوتيرة شعبية يومية.

أصبحنا أصدقاء في صنعاء، وكان يسأل عني وهو لا يزال في منفاه بالإمارات، كلما صادف مقالة لي في "الصحوة"، ضمن مزاج هو خليط من الشغف بالكلمة، ومن حس السياسي المهتم بنمط تفكير جيلنا وخياراته. ولم أكن مضطراً في هذه المقالة لإقناع الدكتور بالحب والكراهية في حكاية اختلافنا معه في السياسة، وتحديداً "فيدرالية الإقليمين" التي يتبناها الحزب الاشتراكي، وقد نقدتها كما فعل بعض الزملاء.

هذا العرض الودي له علاقة بتعذر حديثي عن الدكتور ياسين بمعزل عن هذا الود، ليس لأبين له أن نواياي حسنة، ودافعي في نقد مشروع الحزب الأخير لا علاقة له باستهداف شخصي له أو للحزب، كما تحدث الدكتور (أمس الأول) في محاضرة ألقاها في قاعة اللجنة المركزية، دون أن أتبين الفعالية التي قد يهتم الدكتور أثناءها لوصف بعض الصحفيين بجملة كلمات غاضبة تصورهم كصوت غير نزيه، وجزء من مشروع عدائي يستهدف الحزب أو يستهدفه شخصياً.

وكلما اختلفنا في وجهة نظر ما، هل يصبح علينا تلقي هذا النوع من الإحالات، وضمنا لمشروعات أو جهات غير نزيهة؟

يفسر بعضنا تبني الحزب لفيدرالية الإقليمين على أنه "فك ارتباط"، وربما لو اعتمد الدكتور أسلوبه الذي أعرفه في الود على هذا الذي نقوله، لكان ذلك أجدى من وضعنا في قائمة أعداء الحزب.

الدكتور بالغ التهذيب، وإنساني منحاز لمقولات التحديث وانفعالات الأدب والفن ومثاليتهما، ولطالما كان حاضراً بين السياسيين بوصفه ممثلاً لهدوء المنطق، ولنبل الغرض، وكثيرون ظلوا يرددون اسمه كرجل مرحلة، ويتساءل البعض أحياناً: أين الدكتور ياسين؟

لقد ظل الدكتور مثال الشراكة الذكية التي ينجزها السياسي مع جيل من الكتاب والباحثين عن مكان لصوتهم في مشروعات صياغة سياسة البلد. يتساءل ويناقش ويمنحك نسخة من رواية "جمعة" التي ألفها في لحظات الهرب من إلحاح السياسة، وضمن شغف شخصي بالكلمات المفارقة للبيانات السياسية.

وأنا واحد من الناس الذين احتفظوا له بذلك الحس المراهن على عقله ونزاهته، وعندما اختلفنا معه كان ذلك لأننا نفصح عن رؤية لا علاقة لها بالمشاريع الصغيرة التي بقيت هاجسه النقدي على مدى سنوات.

عندما يغضب الدكتور ياسين، ويحيل الصوت المناقض على قائمة الضغينة والتآمر، فهذا يعني أن التوتر قد وصل بنا مرحلة الخطر.

قالوا إنه كان اليوم بارعاً وحاضراً بجاذبية المنظر، ومن يتحكم بمخزون هائل من الكلمات، وقدمها بقدرة تطويع للغة جعلت الاشتراكيين يهنئون بعضهم ضمنياً أثناء تبادل الشغف ببراعة الدكتور.. والذي اقتطعه الدكتور من دقائق قليلة للرد على الصحفيين المشكوك في نزاهة دوافعهم، قد ترك الباب مفتوحاً على تأويلات من يقصد بالضبط.. ومن سامي غالب إلى بشير السيد ومحمد العلائي ونبيل المحمدي، تبين لي من معرفتي الشخصية، أنه لا أحد من هؤلاء ينطوي على استخفاف بنفسه، أو يضمر إحساساً سلبياً تجاه الدكتور من حيث المبدأ.

ناهيك عن أن هؤلاء، وأنا واحد منهم، لطالما حاولنا أن نكون جديرين بفكرة احترام الذات.. وضمن إحساس متواتر بتفهم مآزق الحزب الاشتراكي، والاحتفاظ في ذات الوقت بالحق في نقد بعض تصوراته للحل، وتحديداً في الأيام الأخيرة.

ولقد بقي الاشتراكيون يمثلون تلك الحميمية التي يكنها مدمنو الكتب والانحيازات الإنسانية تجاه فكرة اليسار التقدمي عموماً.

ومنذ حرب صيف 94 إلى ما قبل مشروع فيدرالية الإقليمين، وبعضنا أو أغلبنا يتلقى ما يبدر عن الحزب بعاطفية من يتفهم المضطر. ولقد ظلت مشروعات الحزب وتصوراته تحظى بذلك القدر من جهد التعاطف مع كيان لا يكف عن كونه في مأزق.

وبقي الدكتور يمثل حالة المعاناة النسبية في متاعب الحزب، وبقي بدرجة ما مفارقاً نفسياً لمزاج تلك الاضطرارات، ولو من قبيل سعي الوعي العام للفصل قليلاً بين خيارات الدكتور وخيارات الحزب الاشتراكي.

وعندما خرجت تعز على ذلك النحو الجماعي، احتجاجاً على محاولة اغتياله، فلم يكن ذلك بدافع من عاطفة اشتراكية أو مناطقية، بقدر ما هو إفصاح عما يمثله الدكتور وحياته في الوعي العام.

ولطالما بقيت مناقشاته للحل تدور حول إرادة وطنية عامة، ولا تخلو تلك التصورات على تباين بعض تفاصيلها، من تفاؤل وحس مقاومة للمشاريع الصغيرة، وتحديداً مقاومة فكرة الحل الجاهز والسهل، وعلى أن أي حل للمعضلة الجنوبية ينبغي أن يكون ضمن حل عام لمشاكل اليمن.


لا يمكنني تحديد حيثيات نقد الآخرين للدكتور مؤخراً، لكنني أجد في رضوخه لفيدرالية الإقليمين شكلاً من اليأس من حل للمعضلة اليمنية برمتها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق