الأحد، نوفمبر 24، 2013

الشوفيني الأخير


محمود ياسين

هو في بداية الأربعينيات ولا يهتم في أن يبدو ذكياً.. إنه يتفوه بكل العلم الذي بحوزته متحدثاً عن أن الجبال تقر كل سنة، وأن موقع بلادنا مرتبط بحركة كوكب زحل وأن عدد دورات زحل تؤكد أن لدينا تحت الأرض بحوراً من النفط.

هو الرجل الذي يشرب على القات أربع حبات كندا، ويشحف لبلاده مؤكداً أن السعودية تمد أنابيب تحت الأرض، ومن أول برميل باعته المملكة كانت تبيع نفطاً يمنياً، يمسح فمه ويمضي متهكماً من هبالة عدم التصديق التي تبدو في عينيك وعندما تسأله عن مصدر هذه المعلومات: يتساءل بالمقابل:ـ مصدر المعلومات؟ كتب.

لا أحد يدري بالطبع ماهية هذه الكتب، ولا أين يمكن إيجادها غير أن إحساساً بالغبطة تجاه وطنية هذا المنشئ الذي يضع كل أسباب القوة واجتراح المنجزات في أرض اليمن ويعرق دون أن يلتفت للطاقة المفتوحة خلفه، تأتي بالريح من المحيط الأطلنطي طريق واحدة لقفا رأسه المحتدم بالنشوة والوطنية الصافية لدرجة فيضان دموعه، وهو يعاتبك إذ تقلل من شأن بلدك.. يعمل ذهنه على طريقة ذهن النخبة المصرية وهو يمثل الشوفينية اليمنية التي يصل وجودها في اليمن حد الندرة ولا تصادفها إلا وأنت تلامس انفعالاً إنسانياً يبدو لك غير سوي بدرجة ما..

وكأنك كيمني قد تضطر للتحلي ببعض الاختلال لتقوى على الثقة ببلدك، ولا أدري أين يكمن النقص؟ وما هو العنصر الغائب في هذه المعادلة الوطنية المختلة، حيث تعمل الحذاقة ووهم الوعي الكامل واليقظ على تحديد علاقتنا ببلادنا عند عاطفة واحدة هي اليأس.

اليأس الذي يتشاركه المثقف وسائق الباص والأمين العام وحتى الرئيس.. وكأن مزاجاً ًهو أشبه بموضة يأس وتخل قد حددت تواجد الشخصية اليمنية في هوية البلد مثل تلك العاطفة المحتضنة باليأس والضغينة التي يتواصل بها أفراد عائلة مفككة لا سبيل لشفائها من فاعلية تبادل الحقد والتخلي الصامت..

لكن صديقنا هذا يجد مبعث وطنيته في المقارنة كمرحلة تالية لما يقول عنه "حضارة اليمن مما ما قبل التاريخ" فهو يقارن بين العواصم التافهة مقارنة بصنعاء من خلال سائقي التاكسيات، وكيف أنهم في كل العواصم العربية مجرد لصوص لا يحترمون الضيف ويعرضون عليه خدمات حقيرة لكن في صنعاء أصحاب التاكسيات "شامخين" ثم أن الحضارة اليمنية كلها مدفونة تحت الأرض وفيها "أشياء أكبر من الأهرامات" لكنها تحت الأرض، وكل ما يميزنا كشعب هو لا يزال وفقاً لهذا الذي يشبه آخر الهنود الحمر بانتمائه وبجبهته العريضة وفكه السفلي الهائل.. كل جذور الحضارة اليمنية مدفونة في أعماق الصحراء وفي المكتب والمخطوطات وفي قلبه النبيل..

لم يخطر لأحدنا أنه كان يوماً في لندن، لكنه كان هناك وصادف مجموعة من الخليجيين في محل سجائر في أحد الأحياء الراقية يبحث عن سيجارة قد تكلفه اثنين أو ثلاثة جنيهات استرليني من المائة جنية التي يملكها غير أنه وجد نفسه في معركة وطنية لا تقبل المهادنة أو التعقل.. إذ قام الخليجيون بشراء سيجار كوبي بـ70 جنيهاً لسيجارة واحدة، فاشترى سيجاراً بمائة جنيه استرليني، واضعاً ثروته كلها قيد التحدي الوطني ليمضي بقية يومه بلا طعام وقد امتلأ باليمن حد الإشباع.


يخبرك أن عبد ربه سيقوم بكل شيء، وأن علي عبد الله صالح قام بكل شيء متجنباً أي حديث عن الفساد أو أي إشارة للتقليل من شأن بلادنا ضمن مزاج تسامحٍ مطلق مع كل ما هو يمني، ناهيك عن قيامه "بالغمز" المتكرر منبهاً للدور الخارجي في الفساد، وكيف أن مخابرات الدول الكارهة لليمن هي المستفيد الأول من الفساد.. ويسأل في النهاية: عسى الله كم سرقوا؟ يقوم مشروعه الوطني على كلمةٍ واحدة هي: الحب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق