الجمعة، أكتوبر 22، 2010

سينما اللواء الأخضر..

محمود ياسين *
sayfye@gmail.com

ما إن رأى الناس "برتة" السينما بإب حتى احتشد العشرات قرب الإعلان السينمائي عن فيلم اليوم.. كان فيه ساق عارية تماماً لأول مرَّة.

طار الخبر في الأرجاء وتقاطر القرويون من الضواحي راكبين قلابات نقل الأحجار، معلَّقين قرب نافذة السائق، وفي الحامل الخلفي للشاصات ذات الثربات.. والذي أوصى لابن خاله برسول ينبهه لأهمية المشاركة في الحدث.. وامتلأت السينما حتى ردَّ عبدالكريم، القائم على الباب، أناساً كثيرين وأدخل بعض معارفه بالوساطة.

تدور أحداث الفيلم في غابة مطرية، ونحن واقفون تقطر ملابسنا ماءً وانتظاراً لاهفاً لتلك الساق العارية التي شاهدناها في الإعلان (البرتة).. كنت تلمح ابن الشيخ وابن سائق البابور، ورجلاً عاقلاً من بلاد أخوالك أتى هو الآخر تلبية لدعوة الساق العارية المكشوفة..

كلَّما اشتد المطر في الفيلم بدأت الفتاة تظهر أكثر، وبالتالي يشتد المطر في إب، وسقف السينما كان من الزنك، فتسمع ما يشبه صراخ السماء تحذيراً لما أنت مُقدم عليه. مطر سقف سينما اللواء الأخضر كان يتفاقم بلا رحمة.. نذير مستميت يضغط على أعصابك بشدة، وأحدهم يضغط على قدمك.

ذلك اليوم كشف عن كبت إب الهائل، وما وصل إليه أمر الضواحي من حاجة لمشاهدة العُري ولو في حدوده الدنيا!

كان الزحام شديداً ممَّا حال دون تجوُّل شخصية شهيرة الصوت، وبلا اسم تقريباً (آيسكريم- بارد والاَّ حليب)، لم نسمعه ذلك اليوم، وأظنه جلس في تلك المساحة الاسمنتية بين الشاشة ومقاعد الصف الأول. إذ كانت تلك المساحة خاصة بظروف استثنائية من هذا النوع..

شتائم من هنا وهناك، والقبائل البدائية تلاحق فتاة الفيلم، ولا يبدو من خلال ملابسها أو من خلال المطاردة أن ثمة عرضاً إباحياً للمطاردين، فهم كانوا جائعين للقمة وليس لامرأة، ذلك أن الفيلم في بدايته كان قد نوَّه لكونهم يأكلون البشر، غير أن أمل جائعي إب بقي معوِّلاً على أن يأخذ جوع تلك المجموعة البدائية الشكل الذي يريدونه، ويمنحهم مراقبة الساق العارية يتم ملامستها، غير أن مجموعة الأمزون بدأت تُعرِّي تلك الفتاة بطريقة لا يمكن من خلالها تحديد ما إن كان ذلك للملامسة أو للالتهام، مع ظهور الجزء الأول من الساق توقف الفيلم (قطعوه) وتفاقم المطر.. وصرخ ابن سائق البابور ذو الندبة لحرق عقب سيجارة في عنقه صرخة هائلة تفصح عن تاريخ مكبوت يحشرج.. يا اعواااااااااااااااار.

لم أظنه سيتعافى بعد تلك الصرخة البتة. ولطالما توقف المطر الغاضب على سطح الزنك، مطمئناً، لكون الأعور قد تمكن كعادته من الحؤول بين أخلاق إب وبين السقوط.

أحد الشيبة من قريتنا لوحظ على الباب بعمامته يفاوض ويتوعد عبدالكريم، إما أن يدخل لينادي صغيره الذي بجانبي أو أنه سيأتي بطقم.
كان نداؤه ملحاً، ونحن بين أقدام الناس نرفض محاولة مستميتة لانتزاعنا من خطيئة ربَّما يسمح لها الأعور بالمرور أمامنا.. كنا مضطربين، وبدأ صوت بائع الآيسكريم يتردَّد ممَّا يعني أن الكهرباء المضاءة سيطول أمرها.

أخيراً سكن المطر، واختفى صوت جد الفتى الذي كان يحدِّق في وجهي، كمن يتملَّى وجه الشيطان المضطر لصحبته.

في الأيام اللاحقة كنت أتلثَّم وأذهب إلى السينما.. وأمشي أعرجَ وأنا أتقدّم من شباك تذاكر السينما حتى لا يعرف أحدهم خطواتي.. وكان عبدالكريم يقطع نصف التذكرة ويبتسم لي بما يعني: "أنا أعرفك ولو تلثمت". لقيته مؤخراً في السوق القديم بإب وأنا أتناول الغداء، لقد أصبح قيِّم جامع لا يتبجَّح برحلته من الضلال إلى النور، فهذا هو المناخ، ثم إنه يذكر السينما بودٍّ ويرثي أيامها الأخيرة قبل أن تغلق حينما لم يعد يأتي أكثر من خمسة عشر أو عشرين شخصاً يقومون بحركات مقززة، وكانت السينما أيام زمان سينما أبطال الأفلام الهندية بالدرجة الأولى أيام السلاسل وشاكا والفراشة، حينما كان الفيلم يقدم استعراضاً لحياة ترفض أن تبقى مذلة.. حياة البطل ذي القوة والنوايا الطيبة، كانت حياة الهند وحالاتها في ضياع الأمهات والأطفال تخلق حالة رثاء وتضامناً إنسانياً حميماً تجاه الفقدان، وكانت السينما تسريحات شعر ناعم ولم تخلق مجموعات خيِّرة.. غير أن إب بدون سينما وبدون سلاسل وجيتا تصبح بالتالي بدون "الجاءة".

تخيَّل مدينة ليس فيها حارة فَتونة ومرفالة وصور مدهشة وعبدالكريم..

كان بقميص نصف كم حتى في البرد، وكان يقوم بعمله بشخصية تحترم ما تقوم به، وليس وكأنه على باب حاكم أو باب أي شيء كان، وكأنه على باب السينما.
كان يظهر بين فينة وأخرى بطلٌ من الباب إلى القاعة محذراً بصوت واثق ضدَّ أي حالة ضجيج مفتعل..

في بداية التسعينات بدأت سينما اللواء الأخضر تكبح تدخلات الأعور في سير الأفلام ومفاجآتها.. وشاهد الناس عُرياً كاملاً وغريباً، وها أنا لا أدري لِمَ أتورط في حالة دفاع وتوضيحات. أنا أكنُّ شيئاً ولا أدافع عن العري. إذ أنه كان مربكاً تماماً لأناس مثلنا فيفاجؤون باختبار صارم لكل ما تم تحذيرهم منه. وكذا في الزحام يفقد المرء أية قدرة على فهم العري أو التعامل معه. يجعلك تحدق ببلاهة كمن تقدم له عروض سرقة مغرية ومريبة وغير مأمونة البتة.

الزحام يحاول الإساءة إليك، والنيل من كلِّ ما هو عزيز وثمين في أعماقك.. لكأنك أقل جدارة بأي تقدير تحاول انتزاعه من محيطك، إذ يأتي العري فتتقافز عمائم أسرتك وصورة الدرج في منبر مسجد قريتكم.. وكلمة "وقف لله تعالى" وأواخر الآيات من نوع الفاسقين بجمع المذكر السالم. وكانت "الخاسرين" أكثر إلحاحاً من غيرها..

أغلقت سينما إب.. ولم يحدث أن قال أحدهم عنها سينما، إذ أنها عُرفت دائماً بـ"السينمه" لكأنها كانت حاضرة فحسب بحالتها وهويتها المناقضة لما يفترض به أخلاق الناس.. كانت تلعب دور الوعي الباطن لإب الجديدة وضواحيها، وحين وجد هذا الوعي طريقة أخرى للتعبير عن وجوده أغلقوا السينمه.


* ناشر ورئيس تحرير مجلة "صيف" الثقافية الشهرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق