الجمعة، أكتوبر 22، 2010

ليس للفتيان بداية جديدة

محمود ياسين

لدينا جيل من الباحثين عن الحياة، بودهم لو يدرسون جيداً، أن يحصلوا على عمل، وأن يعود أحدهم إلى البيت دون أن يتعرض للوم. لقد سئموا معاملتهم دائماً كفاشلين مهددين حتى بما ينجزه أحد زملائهم في القرية مثلاً، حين يعود هذا المحظوظ من بينهم، وقد نزل اسمه في كشوف الخدمة المدنية.

واحد من بين عشرين شاباً مثلاً، واحد نجح بمعجزة، معناه الحكم على تسعة عشر شاباً بالفشل. فوراً يتذكر البقية خيبة أمهاتهم وإهانات إخوتهم الكبار. ويبقى جيل بأسره محكوماً بفكرة بدائية من نوع رجالة بن فلان ومن أحسن ممن.

ويختبر الإنسان ملمس خيبة الأمل المبكرة والشعور بلا جدواه الشخصية. عجزه الكامل في دنيا غير عادلة، وكأن أسرته وقريته أو الحي الذي يقطن فيه قد دفعوه إلى الميدان أعزل، وعند أول خطأ يقتلونه. المقولة الأخيرة لأرنست همنجواي في عمل روائي هو من ذلك النوع الذي يلوذ به عاثر حظ من هذا النوع على سبيل الصدفة.

غالباً ما ينجو هذا الشاب أثناء تعرفه إلى أرنست همنجواي في طريق عودته إلى البيت، حيث لا أمل لديه ولا خندق سوى في عبارات أدب رثاء المصير الإنساني برمته. غير أنه كم نحتاج من مقولات ليتمكن هذا الحشد الهائل من المتضررين أن يناموا بسلام.

ينامون فتياناً محترمين، ربما بلا ضمانات لكن بلا قنوط من هذا النوع الذي يقصم لياليهم بلا رحمة. حتى أن أفكاراً غريبة من نوع الانضمام للمؤتمر تتحول إلى طوق نجاة. وذلك التعويل على رئيس الفرع، وحكاية توظيف شاب ما أثناء انتخابات ما. وبالتالي القبول الكامل بمبدأ الحياة على حساب بيع الولاء والانخراط الطوعي في حياة «اللاعدالة».

أذكر في أواسط التسعينات شائعة المصحف الجلدي المطلوب مقابل مليون دولار. أغلب رفاق الدرب انطلقوا بحثاً وراء المصحف المزعوم، ذلك أننا كما هو حاصل الآن، بغير اختبار عادل ولا امتلاء إنساني بما نعانيه.

ليس لدينا حجة من أي نوع، ولا أحد منا تمكن من الوقوف إلى جوار نفسه، ذلك أننا لم نلتقِ جميعاً بأرنست همنجواي.

في البيجو في قاع جهران، همس صديق في أذني، ونحن في المقعد الأخير أن الذي جواره من الناحية الأخرى من منطقة الشّعِر ومغترب في أمريكا. ماذا لو أصبح صديقنا وأقنعناه بأن يرسل لنا فيزا عمل عندما يصل إلى هناك.

أمل من هذا النوع يدعو للسذاجة والابتذال أن يتسرب إلى روح مرحلة عمرية تتعلم كيف تعوّل على صدفة ولدت يوماً بمديرية الشعر. صدفة محظوظة قد تحول بين الإنسان وبين الغرغرة اليومية، وهي تضاف لصدقة المصحف أو لوضع المصير برمته بين يدي رئيس الفرع.

أعرف جيداً ما الذي يشعر به الطلبة والخريجون. أشعر بقنوط الملازم ولا جدوى الامتحانات. وهذا النوع الذي نعرفه هذه الأيام من الاقتتال على أبواب كلية الشرطة. هي كلية مضمونه فحسب، حتى أن أغلبهم لا يسير وراء نزعته العسكرية الأمنية، ويبحث عن ذاته من خلال الكلية.. لا، لا. كل ما هنالك أنه ملاحق ومدفوع بالاستماتة في الحصول على ضمانات.

وكم حجم الخيبة الكافية لتوزيعها بين أكثر من تسعة عشر ألف فاشل في اختبار كلية شرطة تقبل فقط أربعمائة طالب.

لديك تسعة عشر ألف وستمائة يأس وعودة مخذول، لديك هذا الرقم من التساؤل المرير. «أين أوَلّي؟» (بتشديد اللام) وبما يحمله هذا السؤال من قيمة مأساوية لجيل من أبناء العائلات الغبية، العائلات المتدينة التي تتوقف عن إعادة مسألة الإخفاق إلى الله والقدر، والاعتراف بكونها عائلة ليست ذات نفوذ من أي نوع، وتلقى بذلك كله على رجولة إنسان غض، وكل شيء من حوله يسعى لأن يكسر ظهره.

إلى الآن لا تزال أرقام المنظمات التي تعتمد العنف تؤكد شلل هذا الجيل حتى في اختيار الأسوأ. ذلك أن القنوط يفضي لأكثر الخيارات سوءاً، غير أنه أحياناً يشُلّ المرء كلية، ويفقده حتى القدرة على أن يكون سيئاً.

ما بين الثامنة عشرة والثلاثين عاماً، ثمة مرحلة زمنية من صلب وجودنا تخضع لضغط عنيف. علمية تشويه بالغة الضراوة، وهذه الكلمات كلها (من القنوط إلى الضراوة) ليست إنشاءً ولا بكائيات، ذلك أن الأرقام واعتماد الإحصائيات لم تعد هي المعضلة أو الغائب في معادلة مأساوية من هذا النوع.

يطلقون على هذه المرحلة العمرية في العالم «العمر الغنائي»، فيه صبابة وإحساس بدرجة من عدم الثقة بالذات. نوع من الاهتزاز الجذاب، الباحث عن كينونة يستقر عليها، هوية تمثل آخر الأمر ما هو عليه. غير أن "العمر الغنائي" في ظروف كهذه يفقد قدرته على الإحساس بمقاييس الجمال الأنثوي فيلوذ القانط بالتفكير في النساء السمينات.

أعرف أن على أبواب جامعة جورج تاون أيضاً، يعود عشرات الآلاف غير مقبولين وفاشلين أيضاً. غير أنهم يفشلون لأيام فقط مدركين في قرارتهم أين يذهبون، وأن هناك خيارات أخرى ليست سيئة بالضرورة، وأن هناك دائماً بداية جديدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق