الأحد، أكتوبر 24، 2010

لا تزال الحياة جديرة بالعيش

محمود ياسين

يخطر لأحدنا أن يتوقف، لا أسهل من اليأس، غير أن الحياة رغم كل شيء جديرة بأن تعاش.

أذكر رجلاً معاقاً في أحد أرصفة التحرير، في الجهة المقابلة لسينما بلقيس. كان معاقاً للغاية، ممدداً لا شيء فيه يتحرك سوى رأسه، وكان هناك أغصان قات مرجومة على الرصيف إلى جوار فمه، وهو يجهد ليلتهمها. يريد أن يخزن هو الآخر، يريد أن ينتشي.

لا أمضى من إرادة الحياة والاستيقاظ كل صباح، ليس بدافع الرهبة من كل شيء، وإنما بدافع الحياة ذاتها، والمرور بأشياء جديرة بالمرور عليها: صديق مثلاً، أو المرور بالصباح ذاته، تلك الجمرة المتبقية في الإنسان من حياةٍ لا شيء فيها أكثر من اليأس والخيبات، خيبات السياسة وخيبات الرزق، وذلك النوع من إصرار دنيا على دفع اليمني إلى التوقف عن أي فعل.

إذا ما اعتمدنا فكرة حساب الربح والخسارة سنجد أن مغادرة المنزل إلى نقابة الصحفيين فكرة خاسرة، وأن مغادرة الوصابي لبوابة العمارة التي يحرسها إلى شارع مازدا، وهو يدفع عربته المحملة بالبطاط فكرة خاسرة، على اعتبار أن الوصابي سيعود بما يقارب الألف ريال مقابل ست ساعات عمل، وهو يحتاج كل يوم إلى أكثر من ثلاثة آلاف ريال. غير أن ثمة ربحاً في تؤكد الكائن بأنه لا يزال على قيد الحياة. وأن يأسه لم يعد صالحاً لغير المقولات الأدبية وهي ترثي المصير الإنساني.

أعرف رجلاً في الستين من عمره هتف للثورة وللحمدي ولوحدة الشطرين، وساند الإسلاميين في الانتخابات التي أعقبت مساندته للاشتراكيين، وخاض شريعة طويلة المدى مع ثمانية متنفذين، خلال أحد عشر مدير ناحية، وخسر مؤخراً رأس مال ابنه الذي كان قد أرسله للعمل في زنجبار. غير أنه إلى الآن لم يكره أحداً: لم يكره الثورة، ولم يكره السياسة، ولم يكره نفسه.
رجل من ذلك النوع الذي يملك كل صباح سبباً جديداً لليقظة قال لي يوماً: "هل آخذ سوط وأجلد الرزق القليل؟ أم أذهب إلى إدارة الناحية وأتقدم بشكوى ضد الحكومة؟". هو مؤخراً يعيش لأجل تأكيد فكرة إمكانية الانتصار على مرض السكر، ويلح على ذلك النوع من إنجازات شخصية توقفت مؤخراً عن التعويل على أي إنجاز وطني.

كان جاره قد أرسل ابنه إلى الاتحاد السوفيتي ليعود سفيراً، فعاد الفتى ليعمل في ورشة ديكور، وخلد الرجل إلى الإحباط وافتعال شجار يومي مع نساء الجيران، وكل صباح يصرخ: بيني المرارة، واليوم يوم جن.

يقول عنه صاحبنا الذي لم ييأس بعد: "مغفل، لا يمكنه العيش دون أن يكون أباً لسفير". أما أبناء صاحبنا فقد اقتسمهم الجيش ومقبل ابن هادي الوادعي، والرصيف بالتساوي، اثنين لكل جهة.

يقوم اليمنيون كل يوم بتأكيد اليأس الإنساني الجمعي من التعويل على من ينقذهم ضمن عودة نهائية للحياة في فضاءات وأسباب رزق ما قبل الدولة.

لقد توقف الوصابي عن محاولة إقناعي بتوظيف ابنه، وأرسله للعمل في مخرطة أحد الأقارب في الحديدة، ولم تعد تلك المرأة من "البلاد" تحاول شيئاً في مسألة راتب الضمان الاجتماعي. لديها خمسة أيتام ولا تحمل ضغينة ضد أحد، وأخبروني أن صوتها بح من كثرة ما أطلقت من زغاريد في عرس مؤخراً.

لا أحد يمجد حياة اللاجدوى، لكن من يملك الحق أو الشجاعة لاعتبار هذا التمسك بالحياة ضرباً من البلاهة.

كنت يوماً قد أدنتُ نوعاً من صبر البغل، في تفاصيل حياتنا، وبحثت عمن يقتل البغل في كلٍ منا، لكن إلى أن نجد طريقة لقتله على أحدنا التفكير بأهمية أنه لا يزال يحترم بعد.

المصدر أونلاين

هناك تعليق واحد:

  1. غمدان اليوسفي24 أكتوبر 2010 في 11:00 م

    ما أجمل أن تقرأ مقال كهذا يبعث فيك نشوة القراءة.. وشغف الأمل.. محبتي يامحمود..

    ردحذف