الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

في الحمام المجاور

محمود ياسين

كيف يرضى الناس بحياة كهذه: باصات وعودة خائبة على الدوام!؟ مساءات اليمني محض هول.

ذات مرة استأجرت غرفة طويلة وبلاطها مزخرف لأجل ذوي الحظوظ العاثرة... دوائر ومربعات تتوالى بلا هوادة في تأكيد أن هذا سيتكرر تماماً. في الغرفة تليفون لا يخص أحداً. وأنا وحيد ومتضرر من رائحة المستأجر السابق: رائحة مكبوت تجاوز الأربعين ومضى.

ربما تتصل إحداهن ولو خطأً يحلم به الملقون على بلاط لم تطأه امرأة؛ هكذا من عتمة ما بعد القات والزوايا الطارئة قد يحدث خطأٌ أنثوي برعاية ميتافيزيقية.

وبدلاً من أن تتصل إحداهن، ظرط أحدهم في الحمام المجاور. أظنه جاري الذي يشتغل عامل طلاء باليومية. ما أسوأ ظرط البؤساء لبعضهم!

آلمني ذلك كثيراً وشعرت بالإذلال وفداحة المصير الإنساني. لقد كرهته، كرهت الرجل وروايات ألبير قصيري وهي تسجل، ضمن كشوفات قاطنيها المتزاحمين في قاهرة ماضي قصيري، تلك الجموع الملتهمة بشدة.

وأنا الذي أسفت لأجلهم بإنسانية المراقب الأمين خارج أسوار تلك الروايات. أما أن أصبح واحداً منهم فذلك ما لم يخطر لي إطلاقاً.

ولم يعد الأمر مسألة ثقافة ورثاء للمصير الإنساني. لقد حولته فعلة عامل الطلاء إلى عدوان وتهديد أسمعني قهقهات نساء قاسيات في الجانب الآخر من التليفون.

ضحكن مني، فأمسيت ملتهماً أنا الآخر. وتأكد لي أن قصيري كان يقصدني أنا بالهزء. وكنت –أنا- هدفاً كسولاً متحاذقاً يعيش على رثاء حياة تتألم" ويكتب روايات دون مراعاة البتة. وفكرت في أنني كنت لأتغابى عن التقاط صورة لي كهذه"، على أن لا تعرض عليَّ فيما بعد.

صورة مثقف وحيد يبدو هازئاً، بلا منفضة سجائره. مثقف طليعي استأجر للتو غرفة في وضعية جانبية أثناء إصغائه لما ينبغي أن يكون شوبارت.

غير أني كنت قد رأيت الصورة قبل أن تلتقطني بسنوات. كانت صوري التي أحتفظ بها تدور في موانئ ومطارات لا تفارقني. ياقة البالطو الأسود تفصح عن ألم عظيم، يجوب الموانئ. ثم الصورة التي التقطت لي في الغرفة إلى جوار موسيقى شوربات، والتي احتفظت بها من قبيل التواضع والاحتياط؛ إذ لا شيء مقلق في أن يشاهدك العالم بفانيلة بيضاء نصف كُم، ومعوز مقلم، تصغي لما ينبغي أن يكون شوربات.

أما أن أحدق هكذا بعينين مفتوحتين، إلى الأعلى أكثر، فذلك يعني أنني ربما قرأت بعض الروايات قبل هذه اللحظة. غير أن الأكيد أنني سمعت حقيقة جوهرية لا علاقة لها بشوربات.

سقطت السيجارة من يدي لحظة انكشافي -بلا هوية- للألم، حتى ألم أقلية هذه ليست تحديقة كردي تحت راية وكالة الغوث، ولا تلائم حتى بنغالياً فاجأه السيل.

لطالما أمعنت في تحديقات ضحايا العنف العرقي ومرض الإيدز.

رأيت بورتريه لرجل يشعر بالخزي، وجعله الفنان يحدق بعين يسرى دائرية وصورة رجل فضحته العدسة يحدق في شذوذه.

لا أحد من هؤلاء جميعاً بعينين مفتوحتين إلى الأعلى، بمن في ذلك عازف كمان أمضى ساعتين من الوله أمام عيني سيدة في الصف الأول جعلها تلتقطه من أكثر من زاوية، لحظة اكتشف أنها تحدق في أذنه السَّادية التي بدت لها – حد وصفها – أشبه بأذن مدبّرة المنزل التي تضررت من الممارسات السادية أيام كانت تعمل بالبغاء.

لا أحد أيضاً من جموع قصيري الملتهمين بشدة كان ليسمح بصورة كهذه. لا أحد من عاثري الحظ يمني لهذه الدرجة. لا أحد يسمع قهقهات نساء كن ضجرات في الجانب الآخر من تليفون بلا رقم.

أعزي نفسي أحياناً بكوني لم أعد مستأجراً في الغرفة. أصبح لديّ أربع غرف، وما من عامل طلاء في الجوار. سمعت أنه أصبح مقاولاً بحمام خاص، وأنه يذكرني بخير. لا أدري ما إن كان يعرف أنه ترك لي ذلك الصوت كذكرى للعلاقات الطيبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق