الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

جـيـل يعاني التهاب المفاصل

محمود ياسين


أشهر الرجال الذين يديرون حياتنا العامة من رجال الدولة إلى المعارضة، هم بطريقة أكيدة قد عاشوا أيام الفاقة والحاجة إلى الطعام. لذلك يستريح الرئيس لفكرة وجود قمح كثير في اليمن. الأشياء الأخرى التي يقومون بها هي أيضاً على علاقة بالطبع الذي تربوا عليه، بما في ذلك الديمقراطية على أنها نوع من اقتسام القوة أكثر من استجابة لحاجة مجتمع.

لا يوجد من يمثل جيلنا، وحاجته للرياضة والمعلوماتية، والطريقة الجديدة في مناقشة هموم الناس. إذ لا يمكن أن يفكر عبدالوهاب الآنسي مثلاً بطرح قضية السكن الطلابي، وزحمة الغرف، وذلك التمزق الذي يعانيه جيل الكبت الجنسي. إنه من المستبعد تماماً أن يفكر الآنسي في مناقشة مخاطر (الكبت الجنسي) لأنه يعتقد أن ذلك من عمل الشيطان، وسبب قديم للاستقطاب التنظيمي عن طريق التخلي الطوعي عن الخطيئة. ثم إنه، بطريقة أو بأخرى، رجل "طاهر" يفكر في خبز الناس ودفعهم لتجاوز التفكير بأعضائهم التناسلية.

ليس هناك من عداوة أو استهداف للرجل الذي كَتبتُ اسمه في أكثر من مقالة ناقدة، غير أن انعدام التواصل بيننا ناشئ عن هذه القطيعة بين الأجيال. وبالعودة إلى الفكرة الرئيسية عن تأثير الفاقة في خيارات قادة البلاد، فإن محاولة رجال الرئيس تطمينه على حال الشعب، تتضمن عادة أشياء من نوع "المطاعم مليان"، ولا يوجد في اليمن إنسان يموت من الجوع.

رجال كثيرون كانوا أبطال ثورة وشركاء في توحيد البلاد، وهم بالتالي متمسكون بحقوقهم النضالية، وفكرة أن الحقوق العامة ترتكز على دور وطني وقيم مثالية وإيمانية. ما الذي تعنيه الوحدة لشاب بوده لو يحصل على جهاز كمبيوتر، وأن يُعفى من الامتنان لكونه يَدرس في الجامعة مجاناً ويتناول 3 وجبات!

حتى هذه اللحظة، لا يزال العقل القديم يحاول تلبية حاجاته النفسية ونهمه لكل ما هو بدائي، معتقداً أن فكرة جيل الثورة والوحدة هي الحاجة الجماهيرية.. بالإضافة إلى هذا الإدمان على الطرق الاسفلتية الجديدة، وإيصال مناطق اليمن ببعضها.

أنا هنا بصدد أنشطة ابتزازية لمشاعر الناس، مثلما يفعل الأب حين يشتري لابنه كوت وكشمير أصلي، ويزوجه بنت رعوي مقابل الطاعة الكاملة وإظهار الامتنان لرجل يقتني لك كل ما كان ينقصه هو عندما كان في مثل سنك.

ينقص جيلنا أولاً شعورهم بالقدرة على اختيار ممثليهم لإدارة شأن البلاد. أناس بلا مهمات تاريخية وطنية، ولم يذهب أحدهم إلى صنعاء على ظهر حمار، ولم يحمد الله ليلاً ونهاراً على نعمة الطهارة. حتى إنهم أثناء هذه المشاركة الحالية، يقومون بالاختيار من أجندة دار العجزة والمسنين. إما يختارون الرجل الصالح الذي تم تقديمه لهم، أو الشيخ الذي عاد للتو من صنعاء بسيارة جيب من الرئيس وأوامر عليا بمد الكهرباء إلى القرية.

تورط جيلنا في المشاركة بلعبة ظاهرها كرة القدم وحقيقتها لعبة الغمياني أو "عرور الذرة" (بتشديد الذال والراء)، وهي نوع من المزاحمة الشديدة "عرور"، حتى إن الرابح في هذه اللعبة هو من "يعر" الآخرين ويدفعهم خارج باب الدكان، دون أن يفكر أحدهم أننا لا نريد (تصحيح الأوضاع) أو تسوية ملعب الديمقراطية. ذلك يشبه إخراجك من المعلامة وتسجيلك في مدرسة بلا ملاعب ولا معامل، ويزاحمك في الفصل أكثر من 100 طالب، والطاقة مخلوعة في شتاء الدراسة، والحصة الأولى جبر.

ها هم قد أشركوا في الحداثة متيقظين إلى أن هذا الذي يسمونه انترنت، هو مجرد نسوان عرايا ويجب حماية الجيل.

على مدى 3 عقود يتم ابتزازنا بتوفير أشياء لا يعرف رجال الثورة غيرها. حتى إن الديمقراطية وبرامج الأحزاب لا تفكر البتة في أشياء من قبيل لدينا أكثر من مليون طالب ما بين السن كذا والسن كذا، وهم بحاجة بعد 10 سنوات لتوفير عدد محدد من المنافذ المعلوماتية، وإشراكهم تماماً في خلق نمط ملائم للتفكير الجماعي.. مؤشر بياني، رسوم، واستخلاصات لعلاقة الكتب بفقدان القدرة على الفعل.

علينا الاستمرار في التلصص على حقوق جيراننا الخليجيين بفرقهم الرياضية، وضمانات صناديق النشء والبطاقات الائتمانية. ونفكر في دانيال الفرنسي الذي قاد ثورة الطلبة وأجلس ديجول على حافة الهاوية.

علينا الاكتفاء بمراقبة الشغف الذي حققه أوباما، والشباب الكثيرون الذين هم ليسوا قادة بلدانهم بقدر ما تمثل مطالبهم برامج القادة الكهول المتملقين.

حاول المرور على خارطة اليمن؛ ستجد في كل مرتفع عجوزاً تم ركزه مثل شاهد قبر. جيل بأسره من المؤمنين بالقضاء والقدر تجاوزوا الـ60 عاماً، ويعانون التهاب المفاصل.

أكاد أقسم إن غالبية من يديرون البلد يطلقون على كرة القدم "طبه"، ويعتقدوننا جيل "ملعابه" لا يحمد الله.

كلهم فوجئوا بالبرتقال أو صادفوه في الخارج، ولا يزالون يعودون المريض أو الرجم بعلب العصير، والمتصابي منهم يهدي امرأة أعجبته (5 صُلع جُبن).

الذين تعلموا وقرأوا كتباً هم الراديكاليون نوعاً ما. لديهم ربطات عنق وهموم شبابية لا يفهمونها في أعماقهم. يطلبون لك المشاركة العادلة في الوظيفة العامة، ونجاحك يعني مثلاً أن تصبح عالماً في الفيزياء النووية.

ما الذي يعنيه أمر شعراء التفعيلة أو قصيدة النثر في أدمغة القادة. التعبير بالرقص العنيف وحاجة جيلنا لاختبار العنف والفوضى.

حتى وقت قريب كان الإصلاح منصرفاً لإدخالك تحت غيمة الله وظله كشاب نشأ في عبادة الله. كانوا ينادون المراهق "يا ابن آدم"، ويعلن الرئيس مؤخراً استعداده للتضحية بمليون فرد من جيلنا دفاعاً عن منجزه الوحدوي العظيم. فيما لم يتجاوز الشاب في الذهنية الاشتراكية اليسارية فكرة المطرقة. وحده البرلمان من فتح أبوابه لفئات عمرية بين الـ 25 والـ 40 وأظنهم الأغلب، غير أنهم إجمالاً يتصرفون كمبعوثي رجال عاقلين أرسلوهم لمهمات لها علاقة بالوجاهة. حتى إن أحدهم لا يتذكر في مداخلاته مآسي غرف الطلبة، أو بعضاً من خيباته في المدرجات وحمامات الجامعة. إنه يمثل الله أو الجنوب أو نظرية بقاء أبناء الناس.

إنهم نواب شبان مستميتون في عدم تخييب آمال العُقال الذين أرسلوهم. لا يسع جيلنا كتابة رواية بطلها طريق صنعاء وحضرموت، أو تدور أحداثها في سلالم اللجنة العليا للانتخابات.

ولقد أُرهق هذا الجيل من إعادة رسم باب اليمن وتشكيل الفن في نوافذ صنعاء القديمة ومقارم الصنعانيات. لكأنه بفعل روح العجائز هؤلاء قد تحول إلى تراث ولا يمكنه بيع لوحاته أو التواصل مع العالم بغير تلك الهوية. هل يملك أحدكم دليلاً على أن سائحاً اشترى من رسام يمني لوحة (ترثي نهاية العالم) مع أن هذا الموضوع قديم في مدارس الرسم.

إنهم لا يشترون منك غير أشياء أبيك، أبحاثك في التراتب الاجتماعي، مصحف جدك الذي من الجلد وكتبه علي بن أبي طالب، أو قصة موتك في صعدة على ما تبقى من معارك جدك السادس عشر.

أحد زملائي طيب القلب، توقف مؤخراً عن كتابة تشظيه ورحلاته المأساوية في البحث عن كاتب مختلف أو شيء آخر في تضاريس الجسد وإنثروبولوجيا الحداثة. كان يهدي صداقتنا بعضاً من تشظيات جيل وأشياء من قبيل تمجيد الصعلكة، ومؤخراً بدأ يكتب عن صعدة والوطن بلغة مناضل يتألم من حاضر لا يعرف أنهار الدماء التي قدمها الرجال الأوائل.

يبدو أنه تلقى نصائح سيئة بشأن لا جدوى الحداثة والتشظي، وأن المجد ليس في الصعلكة ولا لعب دور الشريد المتعالي، بقدر ما هي في المزاحمة على ما يهم "العظاريط" الجالسين على صناديق المال والنفوذ.

وبدأ أكثر من واحد شاركني حماساتي الروائية واحترام مقارباتها ومن ثم الإصرار على أنه ينبغي أن أنجز الرواية وأن أنصرف لها كلية على أن ذلك هو المستقبل.

بدأ هؤلاء يعتقدونني "زقيت المهرة" أو أنني ذلك الهدر الهائل الذي لابد منه، إذ لم أعد أتصرف في لقاءاتنا بما يفصح عن طريقة جديدة في تمجيد الألم أو ترتيب الخيبات بذكاء. لم أذكر جان جينيه مؤخراً، فظنوا أن السبب هو في الكتابة عن هموم حقنا الكُهول الذين في الدولة والمشترك، وأنني فطنت لأمر لفت انتباههم، والعمل في همومهم، وبالتالي أصبح مستقبل جيلنا مرهوناً بجلب مرهم للركب، أو زيت النمر، ومقتنيات كهول أدركوا نعمة السمن البلدي، ولا يبدو أنهم يفكرون في إرسالك لشراء كفن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق