الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

لقد سحقنا السأم..

محمود ياسين



إيقاع الحياة اليمنية من هذا السير الواهن في طريق الإصلاحات عبر الانتخابات وتسوية القوى الرئيسية لخلافاتها بالطريقة ذاتها، وكتابة المقالات عن القوى الرئيسية التي تسوي خلافاتها عبر الطريقة ذاتها... أصبح مملاً للغاية، إيقاعا ثقيلا تمكن مع مرور الوقت من خلطنا بمشاكلنا وأصبحنا وتلك المشاكل هوية واحدة.

يمكن إيضاح أمر الإيقاع هذا بهذه الطريقة: هناك أسرة في ريف إب لديها مشكلات ذات طابع واحد متكرر، وهي أن أرض الأسرة عند العاقل، لا هو أعطاهم الأرض، ولا هم يئسوا.

لم يحاول أحدهم انتزاع تلك الأرض بالقوة، ولم يفكر بطريقة أخرى في التعامل مع ميراث أسرته، وكل خمس سنوات يغضب مجموعة منهم ويفاوضون العاقل بنبرة حادة ويعودون بعشرة أقداح ذرة، ويتهامس البقية عن كون الغاضبين بياعين، وتحولت الحياة إلى هذا الإيقاع، وأصبحت الأسرة معروفة عند الناس بتلك المشكلة وطريقة التعامل معها، حتى أن طريقة مشية أفراد تلك الأسرة في الطرقات أصبحت معروفة مثل مشية جمل حقود لا يتوقف عن كونه يزمع أمراً ما. على أن ذلك كله (الأرض والعاقل والغضب والعشرة أقداح والبياعين) هو شخصية الأسرة تلك ومفتاح هويتها، والذي يصاهرهم من خارج الأسرة إنما يتزوج من العراقة التي تغضب كل خمس سنوات ويسهل استرضاؤها. فكرة الإيقاع هذه ذكرها ماجد المذحجي في معرض حديثه عن حاجة حياتنا السياسية لإيقاع جديد.

يمكنك أن تفهم الأمر شخصياً. أثناء فهمك للوقت الذي تمضيه يومياً من التعامل مع مشكلة مزمنة لا تعود قادراً على الحياة بدون التفكير فيها، بعيداً عما يترتب على ذلك من نتائج عملية.

أذكر أن أموراً كثيرة بقيت عالقة على مدى سنين من التفكير فيما بعد المغرب ضمن إيقاع حياة قلقة أصبحت مع مرور الوقت مبحثا في القلق ذاته، وضرباً من الأعمال اليائسة.

نحن، اليمنيين، أصبحنا ومشكلتنا هوية واحدة، حتى أن عدم إدراكنا لطبيعة تلك المشكلة هو محور شخصيتنا الوطنية. النغمة المركزية لهذا الإيقاع تستمد حركتها من الجذور، موزعة على نغمات القبيلة والإسلام السياسي وغياب عدالة الفرص المناطقية.

في المربع ذاته نتحرك جميعاً وعلى الدوافع ذاتها. ولا شيء يحدث بمعزل عن الرئيس والغبن الجغرافي ومن يمثل الإسلام أكثر، الأخوان وإلا جماعة مقبل أو ما يتشكل من كتائب جيش المهدي وأسامة بن لادن.

أهل الحجرية "عمليين وحاقدين"، والقبائل تنهب عدن بغطاء رسمي.

والإخوان يكرهون محاولات الزيدية السياسية الحديثة مزاحمتهم على مربعات التدين المنظم، وبالتالي اقتسام طموحات السياسة والإفتاء في حياة إيقاعها متكرر مثل نغمة مزمار في فم عجوز لم يفطن مع مرور الوقت لدور الريح الذي تعلم كيف يعمل المزمار.

لم يعد من الذكاء ترديد تلك الجمل التي كتبتها كثيراً عن حاجتنا لأولمبيات وركض في ماراثونات العالم ودنيا جديدة فيها يمنيون يتسابقون على نتائج معامل الكيمياء وأحدهم يفوز بنوبل وآخر يكتب مسرحية تدور أحداثها في مكان تتصاعد انفعالاته على اقتسام الملذات.

هذا كلام قديم حقاً، ذلك أن الرياضة والملذات وإغواء الموهبة هي في الأخير محصلة لإيقاع جديد، ولا يمكن أن نحصل على ذلك من خلال هذا الصبر في انتظار ثمار الديمقراطية الناشئة والرضا بمبدأ التراكم، فطريقة حياتنا تراكم الارتباط المصيري بمشكلاتنا الملتبسة. إنها تراكم الخطباء والسياسيين من أبناء الناس، وتراكم الخبرة في قدرة المجموعات اليمنية على استدعاء جذورها، والحياة بالتالي على حساب الانتماء لتلك الجذور بعد تمثيلها ضمن غياب أي مشروع آخر، فالمشروع الحداثي مثلاً يظهر بطريقة غير مشجعة على الإطلاق؛ منظمات مجتمع مدني وعصبوية خجولة بين مجموعة أسماء ليبرالية تعمل في أكثر من جهة من مؤسسات الماضي.

نحن نعمل عند الماضي، ونتسلم رواتبنا من حساباته الدفترية، ووفقاً لطريقته في تقدير الجهد والحافز، ومستوى وطبيعة شخصيتنا مرهونة بمعاييره؛ إذ إن أهمية حسين الأحمر مثلاً ومستوى خطورته في وعي النظام الرسمي تتجاوز كثيراً خطورة الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، التي تؤكد هذا التقييم بعجزها المعلن عن العمل بغير صرف رسمي، فيما يشبه انتظار بدل اجتماع يتم فيه مناقشة كيف نجتمع دورياً لنغضب من صاحب العمل.

والعملية برمتها إذن جزء من إيقاع دنيانا التي هي دنيا صاحب العمل. هذا الكلام متشائم بعض الشيء ويفتقر لبعض الدقة؛ ذلك أن باجمّال، أيام كان رئيس وزراء، استدعى بعض الصحفيين وكاشفهم بقدرتهم على إلحاق الأذى بالبلد، وبما يتجاوز تقديرهم... ولا أظن دولته فكر يوماً في التباحث مع خطرين من النوع الذي يفضله الرئيس، لكن هذه العملية الحداثية التي قام بها باجمال بقيت من الإيقاع القديم ذاته، وهو التباحث مع من يسيئه إلحاق الأذى أكثر. غير أن الأمر هنا ليس تقييم أدوار نقوم بها نحن، بقدر ما هو بحث في تورطنا جميعاً في الخضوع لتقييم ومعايير الماضي والعمل في مرافقه، وفي الأخير كيف أننا عالقون في إيقاع أفقدنا جملة الدوافع الجديدة. ذلك أنه أصبح من المتعذر علينا الحياة بلا ميراث ولا عاقل، أو التخلي عن الغضب والتخلي عن العشرة أقداح.

كان بطل قصة "رجل القبو" لدستويفسكي قد أعلن إيقاع حياته بداية القصة، وقدم شخصيته للعالم على هذا النحو: "إنه السأم، أيها السادة! لقد سحقني السأم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق