الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

رجال الغرفة

محمود ياسين

عقب التعددية مباشرة، أيام الثانوية العامة في إب، كنا نبحث عن غرفة، فأخبرونا أن في سطح مقر حزب البعث غرفة تشترط فقط تعبئة استمارات انتساب للحزب. ملأنا الاستمارات وأقسمنا يمين الحزب.

بتنا ليلتنا على سطح المقر.. طريقة تعاطينا مع صور ومقولات ميشيل عفلق فيما بعد لم تكن مهمة كثيراً، اللهم وجل أحدنا من اسم "ميشيل"، أما البقية فكانت قومية عربية لم نجد صعوبة في النوم معها على سطح واحد.

كان أحدهم قد عجز عن دفع إيجار غرفته العادية فاستضفناه ليلتها، وهو طالب خليط من المؤتمر والتدين الذي لا يطمح إلى كراسي، ابن ناس وجد نفسه فجر اليوم التالي على أحد مقاعد الباص الذي سيقلنا إلى صنعاء للتضامن مع العراق المحاصر، والاعتصام أمام إحدى الدبلوماسيات الغربية.

بعد تجاوزنا يريم، وحصولنا على إفطار جيد، انتشى ضيف سطح البعثيين، وارتجل خطبة عن مآثر صدام والحزب. كان في حالة انتشاء فشلت معها محاولاتنا تحويل الأمر إلى دعابة.. ضحكنا عليها بعد سنين، أما ساعتها فقد كان صادقاً، وأحرجنا نحن الذين لم نذكر شيئاً عن الحزب ورموزه.

كنا مراهقين مستفيدين من إدراكنا المسبق لدماثة البعثيين واسترخائهم؛ إذ إن المبيت في غرفة، بأحد مقرات الإصلاح مثلاً، كان ليكون مكلفاً؛ أقله النهوض تمام الرابعة لصلاة الفجر حاضراً.

هذا ليس تخميناً فحسب؛ إذ إنه في السنة التي سبقت انضمامنا للبعث، سكنا في غرفة ملحقة ببيت العاقل الذي ينتمي ابنه للإصلاح. ناشط إسلامي كان يقتحم غرفتنا كل فجر فيشعل لمبة الكهرباء ذات اللون الأصفر الكريه (بقوة 200)، ويقودنا بعدها إلى جامع عمر.

كان الضوء العنيف يسحب قدرتنا على المقاومة، مقاومة أي شيء، وكنت أفكر في أن أجهزة الأمن قد تستخدم الإضاءة القوية المفاجئة في دفع المعتقلين للإقرار بأي شيء، وكنت أتباهى بتلك المعلومة، وكان ابن العاقل يأخذها على محمل الدعابة المستحبة.

لم يكن عبدالكريم يتوضأ، وكان يهمس في أذن أقربنا إليه في الصف: هل انتهى التشهد الأخير؟

ونعود لنسمع ذات الكلام عن واحدة من فوائد صلاة الفجر، وهي استنشاق الأوزون الذي لا يمكن استنشاقه إلا في هذا الطريق الإسفلتي المُذِل بين الغرفة وجامع عمر.

عدنا من صنعاء في رحلة اعتصام العبث تلك، نحاول بشتى الطرق تحويل أمر حماسة ضيفنا وارتجاله القوي إلى دعابة. ضحكنا بالفعل ورددناها كثيراً.. ولم يواصل ذلك الضيف مشواره مع البعث.

غير أننا في الانتخابات التالية كنا نعمل كما يعمل البعثيون عادة: نعلق صوراً لصدام، ونتحدث عن مؤامرة الغرب ووحدة الأمة مطمئنين ليقظتنا جميعاً، وحرصنا على استبعاد فكرة التجول بين الرعية بصور ميشيل عفلق. ذلك غير حكيم وغير ذي جدوى. استبعدناه مطمئنين لكوننا نضمر له في أعماقنا التقدير الملائم، أو هكذا ظننا. أو أننا لم نفكر، من قريب أو من بعيد، بالحاجة الثقافية الفعلية للحزب، وما إن كانت صور صدام تفي بالغرض أم لا.

حملنا صورة صدام وألصقناها على زجاج السيارة الوحيدة التي تملكها حملتنا الانتخابية. كان مرشح الحزب إلى جوارنا ونحن نناقش أيهما سيفوز في حقيقة الأمر: مرشح الإصلاح أم مرشح المؤتمر؛ مطمئنين لواقعية الحزب، وعدم تطلع قيادة الفرع لأكثر من المشاركة.

منحتنا تلك الغرفة دفئاً وأياماً جميلة.. وحصل مرشح البعث بجهودنا على أكثر من 200 صوت. لم يكن البعثيون بغيرنا، نحن رجال الغرفة، سيحصلون على ثلث هذا العدد، وكان ذلك عادلاً في ما أظن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق