الأحد، نوفمبر 18، 2012

ما لهم الناس مدوخين؟


محمود ياسين

كتبت مرارا عن هذه الدوخة، وعن المسرات البديلة، وكل يوم تضمحل رغبة من أعرفهم في الحياة أكثر، ويقضونها هكذا تحصيل حاصل، لأنه ليس لديهم ما يفعلونه غير الاستمرار في الحياة، أية حياة، المهم أن يستيقظ أحدهم ويذهب الى كل الأماكن التي لا يريد الذهاب إليها، مصاحبا كل الذين لا يروقونه، متحدثا في كل الموضوعات التي لا تلامس فيه اهتماما ورغبة.

قبل أيام أمضيت ما يقارب الثلاث ساعات مصغيا لحوار مؤلم في القضية الجنوبية، وكنت على مدى الساعات الثلاث أهز رأسي مرددا: آها.

مع أنني لم أفهم شيئا، ولا أدري حتى اللحظة من هم قادة الحراك الجنوبي الذين يسعون لفك الارتباط، وهل هناك بالمقابل قادة جنوبيون مستعدون لبحث الفيدرالية.

بقي أحد فتيان الجنوب في جلسة مشابهة يلزمني بحقه في فك الارتباط، وأنا أبذل مجهودا هائلا للتصرف كشمالي متحضر ومختلف عن الذين يدفعون الفتى لفك الارتباط، أصغيت له بعناء شمالي مجحف، وكنت أتعرق من فرط التعب، وتمنيت لو يفك الارتباط حين المغرب، ويخلصني، يا أخي فك الارتباط الآن، الله يلعنك إذا ما فكيته.

الحكاية الجنوبية بلا بداية ولا نهاية، وهي حكاية متشابكة للغاية، لا يمكنك الفصل في سرديتها بين الاشتراكيين حق صنعاء واشتراكيي عدن، ولا تملك إن كنت مثلي ما يكفيك من الجهد والوقت للحصول على الصورة الكاملة جنوبيا، وتحاول صادقا الشعور بمظلمة الجنوب دون أن ترضخ لفكرة التميز الجنوبي المتحضر باعتبارك ولو تعاطفت تبقى شماليا أقل تحضرا، وتختلط الأمور بين رغبتك في الهدوء وإدراك ما يمثله حسن باعوم للجنوبيين، ولفكرة فك الارتباط، مقارنة بمسدوس مثلا، الحكاية متعبة للغاية، لذلك تقبل بفك الارتباط من قبيل الارتياح.

كان فتى الجنوب قد أصبح دائخا هو الآخر، وكأنه لم يفرح بفك الارتباط.

ذلك أن الناس لم يعودوا يجدون الحياة والمسرات، فيلوذون بالأدوار والمهمات التاريخية العظيمة، وأنا هنا لا أقلل من شأن هذه المهام إلا بقدر ما أعرف من قسوة الأيام في دنيانا المحرومة من كل متع الحياة وحوافز الحظ والكسب والعشق والأناقة، فنتحول جميعا الى الأنشطة التاريخية الوطنية ذات الصلة.

لقد أفضت بنا ثورتنا الأخيرة للمزيد من هذه المهام، ذلك أنه لا أمرّ من خيبة الأمل وهي تقود الناس للبحث عن ملاذات أخرى ومهام أكثر تحديدا وشخصنة من الحلم الجماعي الذي تحول الى كابوس.

كان فتيان الجنوب يحلمون على أبواب جامعة صنعاء، مرجئين إلى حين، فك الارتباط وإظهار التميز المدني على رفاقهم الشماليين في ساحة التغيير. وها هم يعودون بفعل سأم دنيا لا تعطي شيئا سوى الدوخة وتقليب الأيدي على لا شيء، حيث لا يبقى في الوجدان سوى النقمة المبهمة والذهاب الى الأقاصي.

أقاصي سوء الفهم وأقاصي التجديف التاريخي في تفسير الأحداث، وفي تصور الحل، هربا من غموض التعاسة اليومية التي تفضي للحلول الميتافيزيقية وبهلوانيات التاريخ.

كان الشاب الذي تعرفت إليه مؤخرا قد بادلني أسراره الحميمة، وتحدثنا في كل شيء، متبادلين طيب المعشر في تواطؤ مشترك على أن كلينا من النوع الذي يصاحب ويثق سريعا، ويقول كل ما لديه في أول لقاء، لذلك لم يتحرج وهو يتصل أمامي مجادلا بشأن أهليته لخطبة فتاة ينافسه عليها مغترب في الإمارات. لقد جادل بدأب ورباطة جأش، وأورد كل الحيثيات التي تؤهله لأحقيته في خطبة الفتاة، غير أن المكالمة في دقائقها الأخيرة تحولت لحالة من الإصغاء التي وضعته في موقع متلقي النصائح بوجوب الرضوخ للأمر الواقع. كان واضحا أنه تلقى صدمة واقعية أيقظته بقسوة من رخاوة الحلم الذي كان.

قطعنا نصف شارع هائل واجمين وأنا أسايره بصمت من لا يجد ما يقوله. وحينما أعيته الحيلة، أشعل سيجارة، وقال:

بلد حقير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق