الثلاثاء، نوفمبر 13، 2012

ترهات


محمود ياسين

الحياة في المبالغات تزيف علاقتنا بالأشياء وهكذا نقول ما لا نعنيه بالضرورة نبالغ في الاحترام والحب الذي نبالغ فيه لدرجة أن يردد العاشق انه مجنون وانه سقيم بينما يكون الأكثر نهما في المائدة.

ولاحظ كم إننا نقول لبعضنا أنا مستعد ورهن إشارتك، بالإضافة إلى وصف كل الأصدقاء لبعضهم بكلمة رائع وأنت أروع من عرفت في حياتي ومبالغات لا تنتهي بشأن السياسة والثورة والطموحات ،ناهيك عن ردات الفعل تجاه ملامسة الآخرين ابتداء من إهانة قاتلة وانتهاء بـ"أحييتني ومنحتني وجودا"وعند أول منعطف يبدأ في غيبة صديقه بينه وبين نفسه وقد يهمس لأي صديق مشترك أن هذا الذي كان قد وصفه بأروع الناس قبل قليل هو مجرد حقير وتافه ويعاني التهاب المسالك وفي حال كان مثقفا ضمن زحمة السياسة سيتهمه أيضاً بأنه مخبر والتهمة الأخيرة تضحكني في الأيام الأخيرة بسبب من أنني لا أدري الجهة المتبقية لصناعة المخبرين.

أرسل أحدهم لأجلي رسالة تقريض وثناء يصفني فيها بالهيرو،"الهيرو هو البطل بلغة أساطير الإغريق"قال في الرسالة سلسلة مبالغات في أكثر من خمسة عشر جملة لا تكاد تخلو جملة منها من"رائع ،نزيه، جريء"وكان ذلك بسبب من إعجابه بمقالة تنقد حزب الإصلاح وفي الأسبوع التالي أرسل لي خمسة عشر جملة أخرى لا تخلو واحدة منها من "عميل وبياع وما شابه"، أنا كنت قد فزعت من ثنائه الذي لا استحق منه غير جملة واحدة متزنة والباقي سلسلة مبالغات تتحدث عن شخص آخر ،قد يكون غاندي ربما او مارتن لوثر كنج ولطالما أدركت مبكراً ثمن المبالغات التي تمسخ علاقة الكائن بمحيطه والناس وبنفسه في النهاية عندما تحب فليس بالضرورة اعتماد كل هذا الشحن العاطفي مثل عجوز مريض يبالغ في عدد الجرعات من قبيل جهد الاستشفاء، إذا أحسست بشيء حقيقي ونبيل تجاه إنسان فهو سيصل إليه بايمائة ولطالما اختزلت نصائح الفلسفة الشرقية التأملية بالصمت كسبيل لتواصل الكائنات.

في فيلم المحارب الثالث عشر الذي يحكي قصة رحلة المغامر العربي احمد بن فضلان وبينما يكون برفقة الفرسان على خيولهم في غبش الصباح، تمر المرأة التي منحها الفارس دفئ قلبه وليلة كانت ممتنة لأجلها، مرت إلى جوار الفارس على خيله ودون أن ترفع رأسها نحوه ،فقط فتحت كفها لامست قدمه وهي تحدق في الأفق، ولا أظن شيئاً أكثر تكريماً وحميمية قادرة على ملامسة قلب رجل مثل تلك اللمسة المقتضبة الممتلئة بأكثر من معلقات الشعر في تكريم المحبوب.

اقلب أرقام تلفوني أحياناً واتصفح الرسائل لأجد أن رسائل تلفوني وكأنها لشخص آخر، وحين اقلب أرقام الناس اذكر أن بيني وبين اغلبهم خلافات وحالة مزمنة من سوء فهم متبادل وحين نتصافح نتبادل جملة مبالغات ونطري بعضنا ونعود في المساء وفي أعماق كل منا شخصية أم الكاتب البلقاني "كمبروفتش"عندما قال في احد حواراته "كانت أمي فخورة بكلما ليست عليه".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق