السبت، ديسمبر 28، 2013

مأزق الإنسان


محمود ياسين

أنا مبتهج، وأتندى عرقا ونشوة. هكذا يفرح أحدنا مثلما يحزن لأسباب غير عقلانية، ربما يأتي اللامنطق ليكون منطق علاقتنا بالأشياء، وهو منطق وجداني بالغ الخصوصية، له علاقة فقط بتنامي حس مرح داخلي، ولا يأتي نتيجة للإنجاز.

هناك في هذا القلب الإنساني ولع بالبساطة واللاقوة واللاإنجاز، ناهيك عن حراسة هذا الإنجاز. كان يبهجني أمل أن أكون كاتبا في الماضي، معتقدا أن إلقاء العبارات الجذابة المأساوية، مسألة أداء منفصل عن رؤيتي أنا للعالم ووجودي فيه، وإذا بالأمر قد سكنني مأساويا، وأمسى عليّ اقتفاء خطى النهايات المأساوية للناس والمعاني، بنهم من أدمن الرثاء من فرط ما كتب رثائيات وجد لها مستهلكين حزانى يفضلون لكنتها المغوية، وكأنني إذ أكتب عن مآزق الإنسان وضروب ضعفه وخذلاناته، أمنحه بذلك كلمات لقلبه الحزين، يتفوه بها حتى لا ينفطر.

البهجة ليست مشروعا روحيا مكلفا، وقد تتأتى من أغنية أو إيماءة أنثى، أو على طريقة نيكوس كزنتزاكي وهو في كريت يبحث عن بهجة روحية، واكتشف أن البطيخة التي فتحها لكأنما غطس فيها وولد من جديد.

أدرك أن الوجود الإنساني امتحان أليم أكبر من طاقة البشر، وتحديدا البشر العالقين في فخ الإمعان، يحفرون بنهم في أعماقهم، ويفتشون في ذاكرتهم عن عنصر ضائع لأجل معادلة حياتهم المختلة غالبا، ولا يفضي هذا الحفر غالبا أيضا لشيء عدا إدمان هذا الحفر، والتمتع لوقت قصير بمزاياه الجذابة، ومن ثم التورط أكثر في اقتفاء كنه الأشياء، وصولا لملامسة الوجود الشخصي، وحمله على أنه ورطة.

نغمة وشربة ماء، وربما قميص أنيق، واتصال حميم، قد يمنحانك فضيلة البهجة الأقل كلفة، وفي المتناول، عوضا عن مشروع روحي مستبصر وبالغ الكلفة. تتلف أصابع الكائنات، وتفقد العرق الذي بينها، وتفقد ذاكرة ملامسة الدفء، وافتتان الجسد أثناء قيام الكائن بنقل وظائف الوجود الجسماني إلى العقل والذاكرة، ما بالك بالأعماق التي تزعق فيها ضروب الالتباسات في تاريخ وجدان ملتبس أصلا.

ربما يجدر بك قبول مزايا سطحية، وعصيان عقلك الحفري، ولو قليلا، وعلى هيئة استعادة صديق، والإشادة بمآثره العظيمة، وهو وإن كان بلا مآثر حقا، لكنه إنسانك القريب من رائحتك، وتلك مأثرته.

نريد أحيانا العيش بروح بوذا دون أن نذهب إلى الغابة، ونعطب بوذيا بين الباصات والمساءات، والبحث عن النقود، متسائلين كل ليلة: من أين يأتي كل هذا الحزن؟ فكر يا صديقي بعضلاتك، واروِ لنفسك نكتة، أو اقترح لذاتك بطولات وظلال جرأة اهتبال اللذة، مرددا: قلب تمرس باللذات وهو فتى. تعرف أنه لم يتمرس باللذات حقا، وأنه لطالما كان ذليلا من صف ثاني والاختبارات، ومراهقة الحياة في بيئة تختزل الأخلاق في الفصل بين الجنسين. قلبك الذليل منذ التخرج، ومنذ الوظيفة والراتب الضئيل، ووحشة سوء السمعة. هذا متعارف عليه. غير أن حث هذا القلب، وتملق تمرسه المزعوم باللذات، قد يحرك فيه ذاكرة الولع بالناس والأشياء، ومزايا التأنق والملامسة. لا خيار لدى أحدنا، وهو يرقب الهدر الهائل لأيامه أمعانات مقبضة وخيبات على مساحة الاستعداد لتلقيها ضمن ما يعرف بالوعي المبكر بالخذلان. أتثاءب وأتشاءم وأنغلق وأنفتح، وأجدني أحيانا هكذا أقود وجودي مثل شاحنة في طريق سيئ وحقول ألغام. سوف أنعطف هنا، وأحدق هناك، وأتجرأ وأحسب المخاطر، ولن أبدل الإطار المثقوب أحيانا، ففي قلب المخاطر عليك السير مائلا لتنجو قليلا.

أروي لنفسي نكاتا، وأقترح بطولات، وأشكل وجودي المتخيل، ملتقطا لأناي المتأنق بكياسة صورا من عدة زوايا، وأبدل وأستبدل، وأتحوّل وأيأس وأتماجن وأحاكي قاسم حداد في قصيدة منذ بنات آوى وهو يتبدل ويتحول ويتقاطع ويتحاجز وينجو ويتماثل ويهذي وينال منه ويهذي وينال من قاسم حداد ينال منه وينال وينال.. ليقم هو يحصي الجراء، بينما أشعل أنا سيجارة وأتعرق في الشتاء، مستفحلا وبدائيا، لا يهمني إطلاق النار في حارة الصيانة، ولا أتأكد البتة ما إن كان لحسين الأحمر علاقة بالرصاص، ولا يهمني أن يقوم هادي بما هو صائب، ولا أكترث لرضا الحوثيين من تجريمي الأخير للقاعدة.

أنا فقط أقود وجودي البسيط في حياة هي حقل ألغام وتهديدات منذ كنت بلا عمود صحفي، ومنذ كانت الدنيا بلا جماعات.

ثمة ما يتهدد الكائن، وثمة مسرات وعرق وبنات آوى لم يعدن يلقين عليّ مؤخرا تحية المساء.

إنني جذل على نحو ما.


هذا كل ما في الأمر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق