السبت، ديسمبر 28، 2013

صيف


محمود ياسين

تذهب مخيلتي تجاه مقر مجلة صيف في العمارة المتنازع على بعض حقوقها في المحكمة بين المالك ووكيله المؤجر.
الأجهزة وحدها صامتة والدولاب الأحمر لا يكل من كونه مركوزاً بادعاء جمالي ليس فيه معتقد أن أصالته الخشبية تمنحه حقاً في التبجح، كان ذلك الدولاب يضايق محمد عثمان وكانت منافض السجائر مكتظة على الدوام بأعقاب مثقفين لا يكفون عن الأرق.
حلمنا بإصدار ثقافي مميز يتجاوز تلك الرثاءات النخبوية لغياب المطبوعات وكنت لا أنسى ترديد ذات الاستعراض الحماسي في كل لقاء مع نبيل قاسم والسلامي، وعثمان والذي يدور حول التفاؤل ومزاج اقتحام الأسوار العربية بمطبوعة يمنية يتم توزيعها في نواكشوط وبيروت وبني غازي وكانت نواكشوط هي الأولى دائماً في استعراضي المتفائل، ربما لأنني صادفت مرة مثقفا موريتانياً كان يدعي الحاجة الماسة لمطبوعة ثقافية نخبوية.
أرسلنا أعداداً من صيف إلى بيروت والقاهرة وحلمنا وتبادلنا بقايا النقود ومزحات نبيل قاسم ذات الطعم المفزع أحياناً، وكنا نتقحم لكنة مختلفة بشأن الأنثروبولوجيا واشتغالات الفلسفة وتحديات التابو في محاولات الحداثة لعب دور المحامي المنهمك في تمثيل الجسد المقموع.
نشرنا ترجمات وقصائد وتبادلنا بعض الريبة والتباسات إدارية لها علاقة بالمبالغة في تقدير الذات وكنا نرسل "صيف" إلى المطبعة على أية حال.
كنت أحصي الإعلانات فيوشك الرقم على جرف شخصيتي باتجاه التفرغ لكسب النقود على يدي المفروكتين قلقاً وطمعاً، لكن النقود لم تكن لتأتي إلا لماماً، والمعلنون أصلاً هم وزراء يهنئون الرئيس ولا يدفعون ثمن هذه التهنئة وأحصل أنا على بعض الاسترابة الثقافية وقلقها من بعض اللاانسجام بين صورة الروائي البلقاني كمبروفتش وصورة الرئيس علي عبد الله صالح.
رسائل من موالعة الدوريات ومدمني لكنة المزاج الوجودي المعترف المتماجن بين غلافي "صيف" وكان ذلك يدفعنا للبقاء في المقر، نقتسم آخر نصف باكت كمران وننظر للحداثة.
وفي المطبعة يكرم رئيس التحرير أو يهان لكننا أصدرنا 9 أعداد لا يزال التاسع منها في المطبعة، لا أدري ما إن كان قد تحول ورقياً إلى غلاف فقط؟
امتلأت شخصياً بألق الإقدام وغرقت في الديون، وفي الإعجاب المفرط بشيطنة مزاج نبيل قاسم الذي لا أدري الآن ما إن كان قد عاد للعمل كمرشد سياحي ومترجم وما إن كان قد تزوج سائحة في أواخر الخمسينيات من قبيل التجريب والشفقة.
لا زلت أسمع صوت أحمد السلامي المحارب الأخير الذي لم يغادر المقر إلا وقد أمسى البقاء فيه متعذراً بلا كهرباء ولا تلفون.
محمد عثمان ربما استعاد مزاجه الروائي واشتغل على جزء ثان من رواية "ضجة بالكاد تحس"، أنا لم أعد رئيس تحرير وفي كل ليلة أتحاشى النظر للنسخ المرمية في الطاقة من مجلة "صيف" فهي تذكرني بكل الالتزامات المتعلقة بالمجلة ولا تذكرني بالإنجاز إطلاقاً.
من بوسعه إصدار مجلة "صيف" مجدداً؟ المكتب له والأجهزة وعليه فقط التحلي بالشغف الثقافي والعناء لإنجاز جاذبية ثقافية أظنها كانت إنجازاً حقاً إذا ما استثنينا ديوني المترتبة عليها والأمل الساذج بقيمة الإعلانات.
كانت مجلة من أيام حماسي المفرط وأظنني أتقدم في السن حقاً إذ فقدت ذلك المزاج المتحدي ثقافياً. ما يؤرقني حقاً- بالإضافة لأرق كيف أتخلص من الأثاث- هو أنني لم أعد أذكر "صيف" عاطفياً، أو ليكن لدي صورة نفسية واضحة لأيام "صيف" وكأنها تجربة حب عاصفة مع امرأة جميلة وخطرة تبقى منها فقط حس المغامرة، المهمة النخبوية والحداثية تلاشت هي الأخرى ولا أحتفظ لنفسي أو لطاقم "صيف" الذين قاسموني تلك الحالة بأي ثناء نخبوي أو عرفان بالتجربة.
أصادف فقط مولعين عنيدين بذكرى "صيف" لم يخبروني بذاك الولع إلا وقد تهدمت "صيف" تماماً وتحولت لما يشبه كتلة مظللة من أيام لم تعد الآن على مقاسها.

أقول أحياناً: كيف يدرك أحدنا قيمة ما يقوم به أثناء ما يقوم به، وليس بعد ذلك بوقت كاف لأن يتحول الإطراء لمجرد جبر خاطر أو تربيتة متأخرة على الظهر، بودي لو أعرف فقط كيف يمكن لأحدنا أحياناً التحلي بالذهان الكافي للقيام بأشياء من قبيل "صيف" دون أن يكون لديه فلس واحد عدى ولعه بالتحديات ومكابرة اكبر مؤسسات الثقافة بمطبوعة مثل "صيف"، في حال لم يرغب أحد بإعادتها للأكشاك دورية شهرية ملساء فاتنة برسومات وإيماءات الرقص، والشعر والفلسفة فستبقى مجرد مقر متنازع عليه ويبقى منها غصة نكات نبيل قاسم الشريرة عموماً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق