الاثنين، أبريل 07، 2014

تنفُّس


محمود ياسين

رقابة من جميع الجهات. كأن جميع الأطراف موجودة داخل التلفون، وبين التعليقات، تتلصص على محاولتك إيجاد بشر تبادلهم وجودك بالكلمات.

أقسم إنني تدربت. لقد دربتني الرقابة على الحديث الرسمي تلفونيا مع أمي، وكأنني أتحدث لأمين عام حزب، وليس لأمي، لمضمون الطهر المتبقي داخلي، أمي التي لطالما ضربتني وانتظرتني على السطح حتى الفجر.

الرقابة قهر وعنف متسلل إلى قدس أقداسك، والفكرة من أساسها ترويع أخلاقي يدمغ تواصلك مع العالم بالتهذيب المتكلف، وكأنك أصلا بلا خلق، وبمرور الوقت تدفعك الرقابة لتكون ما تسعى هي لالتقاطه ضدك، إذ تمسي كل ليلة مشروع خطأ، وكأنك تمسي ما تتحاشاه ولو بينك وبين نفسك.

فكر في أنفاس المراقبين داخل تلفونك، وأنت تتحدث لزميلة عن ورشة تدريب وما شابه، تحتقن فورا بشبهة الإثم، ولا يعود لديك ما تفعله سوى ارتجال مرافعة حقوقية تنهيها بعرعرة للأجهزة التي توشك أن تجعلك مجرما.

هو من الأصل لا أحد ولا جهة تملك الحق في محاربة أكثر نزواتك شبقا ومجونا. أنت فقط من يملك ذلك الحق، ومن لديه الحق الحصري في تعريف الإثم من الإنسان الذي داخلك، ودمجهما معا، أو الفصل بينهما.

بمرور الوقت، يقوم هذا المجتمع المتلصص بالفصل بينك وبينك.

لعنتي على فضيلة الرياء وأخلاق السجين.

على إنسان هذه البلاد، ليظفر بإنسانيته، أن يتبول فورا في أذن الرقيب.

تمضيها هكذا ليال تعتقد أن بوسعك تخطيها لنمط وجود أفضل، وكنت أقرأ البردوني وسارتر، قراءة نهمة، وكأنك وحش انفرد بقطيع إبل، وراح يسحب مورد وجودها. وكانت الكتب في تلك الفترة تمنحك زمن التوحد في ركن العالم، تراقب حركة المغامرين بتواطؤ، ثم تبكي النهايات وضروب المذلة والعودات الخائبة، زمن للكتب واللاأهمية لشخصك في الحياة العامة، إذ لم يكن أحد ليراقبك وأنت منهمك في مراقبة انفعالات العظماء والمجانين والنساء المغدورات والخائنات واللواتي منحنك وجودهن في الكتب كاملا، وبلا تحفظ، أيام كان لدينا كتب، ولم يكن من تلفون يتهددك، ولا رابط في الإنترنت، ولا أجهزة أمنية، فأنت ناشط في عالم مكتوب يحدث مرة أخرى كل ليلة لأجلك، وإذا بالقراءة تلك تحملك لاحقا كما هو الآن، لتضعك في الحدث وجودا يتعرق بإحساس دب في سيرك لم يعد يتذوق مخاطر الدغل، ولم تعد لديه رائحة غير رائحة مروض الدببة، صاحب السيرك، والممعن في ردات فعل الكائن الذي يقدم عرضا رغم أنفه. نحن لم نعد أحرارا، وقد قبلنا الاشتراك في العرض، ولقد أمسينا ملكا للجمهور وللنمط وللموهبة التي تصقل نفسها آلياً للمزيد من العروض.

دب السيرك، وإن بدا بارعا، إلا أنه لم يعد دبا بقدر ما هو براعة تجد في كل عرض دافعا للاستمرار من خارج وجود الكائن.

الليالي المتشابهة هي ما يقضم الإنسان هكذا، وبشراسة صبورة، تعي ذاتها، وتتوغل في الذكريات والأعضاء، مدفوعة بقوة الزمن البيولوجي، لتعدنا تماما للتماهي مع آلية الرقابة، مقابل وهم أننا مهمون، ومبعث قلق للمراقب، ضمن مقايضة للحرية بالدور الخطير.

شخصيا، وهنا لا أدين موقفنا الثقافي المكتوب ضد التخلف والفساد، ولا أتنصل من الدور، لكنه حديث عن فداحة الثمن والتواجد في الحدث بلا خندق ولا غطاء من أي نوع، غير الشغف الذي يمنحك القراء قوته التحريضية لتقديم المزيد من العروض، واختراق قوانين السيرك، وهذا مهم للغاية وممكن، ذلك أن صاحب السيرك هو هذه الحياة، ولا أعني شخصية سياسية تحركنا بعصاها من بعيد. السيرك هو هذه الليالي المعادة، والشجن المبهم، وقلق النهايات، والبحث عن صيغة بديلة. لا توجد لديك عتمة ولا طهوش في الخارج، ولا وشيش في التلفزيون، وعليك البقاء أمام نوافذ يقظة العالم المفتوحة على كل قنوات تسريب روحك.

في ساعة كهذه، كنت أحمل البطارية الثقيلة، وأخبط في عتمة أزقة الدنوة، في الطريق إلى نور الله في فجر المسجد.

بطارية قلاب لأجل المكرفون، تثقل كاهلي، لكنني كنت أتخفف من ثقل مراهقتي في تلك اللحظات، وأنا أناغم صوتي، أؤذن للفجر بإيقاع مفتون يتردد صدى في فضاء الله.

الحاج عبداللاه أول من يصل دون أن يغفل يوما تنبيهي لكوني بكرت قليلا.

أسمع بعدها صوت محمد أحمد، ثم صالح عبدالرب، وأخيرا يصل أبي، يحدق في البطارية الهائلة، ويبتسم أثناء ما يتقدم ليؤمنا لصلاة الفجر، مبتسما لابنه الذي نشأ في عبادة الله.

كنت على الدوام بحاجة لبرودة فجر الله على أحجار الصرحة، وفي قسمات كهول الدنوة، وكأنهم حضور الزمن الذي يدلي بشهادته للطاهرين.

لا أذكر وجها لشاب آخر شاركني لحظة الهسهسة الملائكية تلك، فلقد كانت النوارة الذابلة وغمغمة 4 شيبة أذكر من أصواتهم "وجهت وجهي"، وقد رموا بسراويلهم جوار الأعمدة، بتؤدة واهنة. كانوا بذلك الحضور المذعن يمنحونني فكرة الشاب اللدن تحت عرش الرحمن.

لا أدري من قال إن ثقبا في عقل الإنسان لا يمكن لشيء أن يملأه غير الله.


أظنه سيوران.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق