الخميس، مايو 08، 2014

ممرات النهضة


محمود ياسين

أين ذهبت في الثانوية أو أين درست؟

حتى الذكريات تحولت لرابط وجود في العالم الافتراضي، لكنني بقيت أسرد لنفسي وليس للعالم الافتراضي روابط وجودي متسكعاً في ممرات مدرسة النهضة، لا أدري مما أنا وجل بالضبط ولا ما الذي يفرحني وجودياً من داخل الفصول أم من الذي بعد الدراسة.

كنت متأخراً على الدوام، لا أذكر إلا بضعة طوابير صباحية، والباقي قفزات من فوق السور، ووعي دائم بوجود العلاية فوق رأسي حتى وأنا في السينما، كان يصرخ بي على الدوام ويحدق في عيني وكأنني أضمر تلاعباً ما، وكان أستاذ الأدب وحده من يرى في توجسي وقلقي ما يمكن استثماره لاحقاً في قصائد، وما شابه أيام النهضة كانت سعي القروي الذي هو أنا لمشاركة عيال إب الفاتنين نزاغتهم ومجاراة تقدمهم اليومي في الحصاءة، وإظهار اللااكتراث إزاء كل شيء، تلك المزاجية التي يوليها فتيان إب القديمة اهتماماً بالغاً، وكأنهم يتمرنون على الحصاءة أكثر من المذاكرة، فشاركتهم ذلك المزاج بوجل غير مكتمل فأخفقت في الدراسة إذ نجحت بالكاد، بينما كان خالد جواس ومحمد المتوكل الذي مات غريباً في كشمير ولم يترك لي من ذكراه حتى أن أحبه، وأقول إنه مات، فهو قد ذهب إلى هناك ليستشهد وأمسى عليّ أنا تسمية انفعالات ذاكرتي وفقاً لحاجة أصدقائي قبل موتهم لتعريف رحيلهم عن هذا العالم كما يحلو لإرادة المصير الذي اختاره أحدهم، وليس كما تحتاج وجدانية الصحب،" مات صاحبي " أقولها هكذا فأجده في متناول ذاكرتي الرثائية على نحو أفضل من كلمة استشهد، أما ذو يزن فقد مات في صعدة وأظنه الآن يعاتبني من العالم الآخر على تسمية رحيله من هذا العالم موتاً، دون أن يكترث أي منهم لتعب القلب وارتباكه من محبة المآثر الاستشهادية بدلاً من حب الصاحب الذي كان يبادلك التواطؤ على سرقة أقلام الفصل كله قبل حصة الرياضيات على سبيل المرح، ليقاتل لاحقاً تاركاً لك ذكرى بحاجة لموقف أن من فكرة الجهاد في كشمير كما فعل محمد المتوكل أو من فكرة الاعتذار لذي يزن الذي كان ضابطاً يقاتل في صعدة، وحصل الذين قتلوه على اعتذار، بينما لم يعرف ذو يزن ما الذي فعله ليبدو وهو في العالم الآخر وكأنه أخطأ بطريقة ما كنا مرحين جماعياً نحب العلاية ذاك الحب المضمر المتملص من صرامة المدير، ومبادلته أثناء تفتيش الحصة الأولى للحصاءة مع أبناء إب القديمة ولم يكن المدير العلاية ليدع إجابة متهكمة حاذقة من متغيب متهكم من حق المدينة القديمة، دون أن يرد عليها بتيقظ قروي قديم مولع بمخاتلات إب التي كانت.


هل يمكن لأحد التفكير في أنني أفاضل بين سببين لموت واحد؟ لا، لقد قامت فكرة واحدة بقطف صديقي الاثنين، الجهاد الفكرة المفترض بها الاعتذار لكليهما. لم تكن تلك الرائحة هي ما تبقت حصراً من أثر أيام صداقة النهضة، وها أنا أمازج الأسى بابتسامة لإيقاعات خالد الأنس الموسيقية وهو يعزف بصوته موسيقى تصويرية مرحة لحركة أستاذ الكيمياء المتوثبة المستعدة للعدوان، أو ذلك الإيقاع التصويري لمشية أمين المكتبة بين النافذة والباب مثقلاً بمؤخرته الضخمة، ولقد التفت مرة وخالد يعزف له من النافذة لحن لمشية السأم الثقيل وقد اتكأ بذقنه على حافة النافذة فقذفه بمجلد من مجموعة الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني . كنا نجحف الفاصوليا متسابقين بنهم ومرح ملتهب والساحة لذي يزن الراقص، يلعب كرة القدم وكأنه يقدم عرضاً لرقصة الباليه بينما أقوم أنا بتعميد كل حدث بوصفه عرضاً تاريخياً مدوناً بعبارة حاذقة اقتطعتها من شهادة مؤرخ أو فيلسوف على عبثية الحياة، وجنونها كان أبناء إب الأصليين يمدوننا بالنكات والحث الدائم على المشاغبة ممتزجين وجودهم بالبنطلونات الجينز، والتعليقات اللاذعة وكان توصيف الأشياء المتفوقة والمهمة أيامها بكلمة "دعم" قد أصبح المصطلح الرسمي لوصف الجميلات والعمارات الجديدة، وهكذا أستاذ دعم وبنية دعم ولقف دعم وجزمة دعم قبل أن يتم استبدالها بكلمة "فساد" أمضيناها مشاغبات وتخازين ووجلاً من الرياضيات وأصادفهم الآن جمال الهجوة قد أنجب كثيراً وبرع في هندسة الاتصالات، يتجول بكرش لم يكن وجوده الجسماني الناحل في مدرسة النهضة يشير البته إلى ما هو عليه الآن ومحمد البعداني يبدل مهنته محتفظاً بحذاقته الرائعة وحبه لأصدقائه، بينما سمعت الآن أن الأستاذ العلاية مرض وحيداً في أيامه الأخيرة، وكأنه قام طيلة حياته بتربية مجموعة من العاقين المبعثرين، الآن بين المؤسسات وتحولات الحياة. نجحنا بالكاد، غير أن النهضة وأنا أمر بها الآن قد غيرت لون بوابتها ولم يعد صوت العلاية يتردد بين الممرات.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق