محمود ياسين
أظن هذه المرة الأخيرة التي سأكتب فيها هذا النوع من المواضيع. فلم يحدث أن قرأت افتتاحية رئيس تحرير مهمة... يأخذ التبويب غالباً شكل حالة من الاعتداء على التفكير المتألق. يحشر الذهن في باب ما. ويتصرف تحت تأثير العلامات ومكان المادة ومكانتها في ذاكرة التعامل مع المطبوعات. إذ من يكن تقديراً عميقاً لباب (صحتك) أو الكلمات المتقاطعة... ناهيك عن أن (التبويب) وهو كلمة تبعث على الإزدراء بسبب الإيقاع لمخارج الحروف. يخلق تراتبية من نوع ما، وكأنه إضفاء ألوان وظلال على مستوى وجود الكاتب ومستوى تواصل المتلقي معه. كان محمد مستجاب في مجلة العربي يذكرني دائماً بطيبة القلب، وكنت أمر عليه وأقف معه أحياناً من قبيل تأدية الواجب. وأخذ اسمه يتأثر تصنيفياً بدرجة العمق واللاعمق المصاحبة لبقية أبواب مجلة العربي. كان يخلص أحدنا من قراءة تلك المجلة الأثيرة إلى أن هذا النوع من التفكير والاهتمام يليق تماماً بإيقاع اسم (استجاب) أو أن الاسم ذاته هو الذي تسبب في هذا النوع من الاهتمام . شيء تراثي نوع ما، تراثي حاذق يهتم بما يغفله الكثيرون من المثقفين الجدد. كلمة رئيس تحرير. لا تقدم لك رئيس تحرير ذكي. أو مدهش، أو نزق حتى هي أداء له علاقة بالالتزام وتكريس هذا المعنى وترك انطباع ما بأن الأمور تسير بشكل طبيعي ومطمئن.. اعتراف ربما بعجز الأنا المعرفية عن التخلص من البيروقراطية. رئيس تحرير وافتتاحية يستدعيان النضج ومتاعب الخمسينيات وكأنه هذا الذي يقوم بالافتتاحة مدير مدرسة يلقي كلمة الصباح ويفكر أثناءها بإصلاح الشبابيك.. الذهن المشتغل في المعرفة يتعلم في الدوريات ، كعمل صحفي أو كقراءة يتعلم مسايرة المحطات والفواصل. وبالتأكيد ترتيب الفعل الثقافي على مقاس مراحل العمر وتقلباته... ويصبح أمر اقتراح وضع قصيدة مترجمة من شعر ساحل العاج أولاً وبدون إشارة إلى أن هذا نمط جديد من الافتتاحيات. يصبح الاقتراح مدهشاً، غير أن المطبوعة في الأخير تتصرف وفقاً لأعتى تقاليد البيروقراطية المعرفية.. وتعطي انتباهاً كبيراً لمسألة البرتوكول. وفي ذهنها قارئ يتصفح من خلال ذاكرة فواصل وانتقالات قد خبرها على مدى زمن. أظن فكرة منح الذهن حق التجول بخفة وانتقائية. وبنوع من التجريب قد تكون جزءاً ربما من أي نشاط مهتم بالانساق الثقافية وطرائقها وسبل ما يعرف بخلق الفراغات وفضاءات التلقي.. غالباً ما يحصل الجزأ الأخير من المطبوعة على هوية المكان الملائم للعب مع الآخر أو التواصل معه، دون أن يتم إغفال وضع إشارات تذكير بالتراث، هذا المثال لا يصلح مع مجلة العرب تحديداً.. ربما يمكن تحديد فكرة الأنا الأصيلة ومربع وجودها في فعل المطبوعة الثقافية من خلال نماذج أخرى لمطبوعات غالباً ما تحشر أفكار البيت وأولوياته وقناعاته على صدر مجلس الثقافة هذا. يمكنك قراءة باب من نوع(شرق وغرب) ناهيك عن ترجمات، أو سينما، بالإضافة إلى أشياء من قبيل ذاكرة ، أو تراث، ومحاورات ومقاربات.. كيف السبيل إذن للتجول باسترخاء ذهني غير مبوب قد يبدأ بلوحة لرسام كردي وينتهي بقصيدة لعلي ناصر القردعي. وأن يقلب أحدنا الصفحة مدركاً أن بداية جديدة لا يحبها تمنحه الحق في التجاهل بدون ابتزاز عاطفي يذكره بواجبه المعرفي التاريخي إزاء تراثه أو بيئته. أو أن يكون انهماك قارئ ما في حوار مع كمبيروفتش ليس مراناً على الأفكار المدهشة التي تقدمها المطبوعة وهي تردد في ذهن القارئ ها أنا أقدم لك كل شيء. أمامك (منوعات) حتى أن مطبوعة تعتقد نفسها ذكية قد تستخدم لفظة بانوراما.. أظن هناك من يحب قراءة مطبوعة كلها حوارات من الغلاف للغلاف.. وتدور عن رواية ما بعد قيام الاتحاد الأوروبي أو أنه من ذلك النوع من مدمني أسماء مختلفة غربية، وفي قرارة نفسه يعتقد كم أن بوسع هذه الأسماء أن يكون مدهشاً أو قادراً على الإدهاش. دون أن يكون عليه بالضرورة المرور بأي من معالم ما يحاول ذهنه الفكاك منه على الدوام.
* افتتاحية العدد السادس من مجلة "صيف" مايو 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق