محمود ياسين
أفكر أنني قد أنجزت الرواية الثانية
"قبل أن أقتل رويدا"، وكلما بدأت الكتابة في الجزء الأخير من روايتي هذه
التي تحدث في إب أيام "خليج الحرية"، والخيام جنب المقبرة، والتي ينسل في
تفاصيلها بطل روايتنا الناقصة من غرفته ببيتهم في "المشنة" إلى "خليج
الحرية"، لينخرط في ثورة هي أصلاً ضد عزلته وخوفه، فهو كان بحاجة للثورة ليهرب
من ذكرى قتله لخطيبته رويدا.. كلما استعدت الكتابة، وجدتني بدلاً من سرد رواية أسرد
مقالات عن إب، فيها سياسة ومحافظ ومدير أمن وأحزاب وبنادق.
أصلاً، لم يقم عبدالباري طاهر إلى الآن
بنشر روايتي الأولى عنده في الهيئة العامة للكتاب، وأنا قد سئمت كثرة المواعيد، وكأن
روايتي الأولى عند الأستاذ عبدالباري طاهر، أشبه بحوالة مالية ما إن يصرفها الأستاذ
حتى أقدمها أنا للقراء كدين مستحق عليّ.
تدور أحداث الرواية الأولى "تبادل
الهزء"، في صنعاء والقرية بإب، عن مثقف يحاول الهرب من الحياة في تداعياته الذهنية،
إلى دنيا فيها عطش وعنف وريح وليل وكلاب، وذلك كله موجود في القرية، فيعود إليها ليسرق
القات، ويقاتل على الأراضي بمدينة إب، محاولاً استخدام ماضيه كصحفي في صراعه هذا الذي
لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالحريات، ولا بالصحافة، لكن هكذا يستخدم المتاح بطل
رواية "تبادل الهزء"، ويكتشف في القرية أن نساء مراهقته اللواتي عاد لاستعادتهن،
يتجولن بأيدٍ معروقة، ويفكرن بحسن الخاتمة.
القرية اليمنية التي حاولت إشعال ذاكرتها
في الرواية، قد أمست مجرد موضوع روائي لا يزال حياة في ذهن المثقف العائد، بينما تحيا
القرية في حقائق مختلفة كلية، مكتظة بالإصلاحيين والمؤتمريين، والطباق الجديدة التي
بناها المغتربون، حيث توقف المغتربون عن العودة من السعودية بهوية حجازي سمين، فقد
انتابهم قلق اغترابي جديد له علاقة بالدرجة الأولى بأسعار الصرف الجديدة، وأعراض الاختلالات
الجنسية.
أنا هنا أحاول ارتجال براعة ربط بين مشروعين
روائيين شخصيين، واجتذاب القارئ هنا، أو أنني لست أجتذبكم فقط، بل أتملقكم بتقديم هدف
واقعي فيه تحولات واستعداءات تجعلني لامعاً، وذلك في عمل فني هو أصلاً فن يفترض به
تقديم إيماءة مستوى مختلف من إنسان بوده لو يتواصل مع العالم من خلال الفن، وليس شرح
تحولات المجتمع. وها أنا، وبسبب الوضوح الذي طرأ عليّ مؤخراً لمستوى وأولويات الذهن
اليمني القارئ؛ ها أنا أعرض محاولتي الروائية، وكأنني أقدم طلب وظيفة في هيئة كهرباء
ومياه الريف.
ما يهم هنا هو هذه الحكاية الصغيرة عن أننا
ننوي استعادة حياتنا بالفن وبالمقالات السياسية، وندعي أننا تمكنا من الإفلات من قبضة
السياسة.
العمل الأخير "قبل أن أقتل رويدا"،
لن يشهد على الثورة، وليست الرواية شرحاً مفصلاً لأزمة المنصة في "خليج الحرية"،
لذلك يمكن الاشتغال عليها بمعزل عن قسر الأدب على القيام بوظيفة مراكز الدراسات والتوثيق.
ولعل حياتنا كيمنيين هي إيماءات أكثر منها
استجابة واقعية متكاملة لواقع التحول. نحن شعب مسرحي عاطفياً، نسعى بنهم لإرضاء المزاج،
وإذكاء عاطفة، أكثر من إنجاز تغيير عملي.
ذلك أن لثورتنا هذه علاقة بالسأم وبالحب
وبالكراهية، لذلك لم نراقب نتائجها، ونشترط تحقيقاً للأهداف.
وهذا النوع من النشاط العاطفي الجماعي،
هو اشتغال الفن، ومبعث اهتمامه وولعه، وبالتالي يمكنك سرد رواية تدور أحداثها في إب،
دون أن توثق لحدث سياسي، أو تضطر للشهادة أو توصيف ما ترتب على الثورة، وما إن كانت
قد نجحت أم فشلت، فأنت تسرد مزاج إب في عمل روائي يشبه اختبار القدرة على الحلم، وليس
تحقيقه.
وهنا يأتي دور الرواية التي تشتغل على المزاج.
أما مراكز البحث والدراسات، فلا أظنها ستتمكن يوماً من الوصول لخلاصة للذي حدث في
"خليج الحرية" أيام الثورة.
عندما يترك البشر "خليج الحرية"
دونما رغبة في التأكد من تحقق الحرية في الحياة العامة، فذلك يعني أنهم أمسوا أحراراً
من الداخل، ولو قليلاً، وبما يكفي، يائسين من أي تقدم على أرض الواقع.
لذلك ستجد أن الأحرار في رواية "قبل
أن أقتل رويدا"، لا يسعون باعتصامهم في "خليج الحرية"، للإفلات من سجون
النظام، ولكن ليهرب كل منهم من سجنه الذي داخله.. سجنه الشخصي للغاية، ولا يعود عليه،
وقد حصل على ذلك الفرار، أن يتأكد من تحرر البلد من قبضة واقعه السيئ.
يبدو هذا إعلاناً مبكراً نوعاً ما لروايتين؛
إحداهما بين الورق وذهني، والأخرى في درج عبدالباري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق