السبت، أغسطس 14، 2010

التربيت على ظهر الظروف السيئة *

محمود ياسين

لا يحصل المبدعون إلا على القليل من النقود.. ينبغي أن تكون ظروفهم جيدة وأن يسافروا ويشتروا أنواعاً جيدة من العطر.. حق الحياة فكرة بسيطة ومعقولة ويمكن الحصول عليه بغير خوف على كرامة الثقافة.
أكتب هذا وتحضرني كلمة (تسليع) وأشعر بأن هناك خطأً ما بالتأكيد في استماتة وجدان المثقف أمام رفاقه في أن يبدو محتفظاً بدماغه إزاء سعي الحياة الغبية لشراء هذا الدماغ.
وكأننا في مسلسل مصري يحتفل بدماغ يحيى الفخراني وشرفه إزاء محيط من اللا شرف والنقود والملوثة.. وكأن اقتراب وسائل الإنتاج التقليدية في العالم الثالث من أدمغة مثقفين ما هي إلاَّ عمليات غسيل أموال صغيرة.
نختار الشرف دائماً، ونتملَّق ما نظنه أخلاق اليسار التقدمي الذي لا يهادنه محيطه مستهدفاً بالدرجة الأولى مراكز المال والنفوذ.
لم يعد الأمر هنا في إيراد أمثلة عن مثقفين ماتوا دون أن يتورَّط أحدهم في امتلاك السيارة.. وفوراً يحضر عمر الجاوي برأسه الكبير الممتلئ وبكراهيته للنقود، وكأنه من غير اللائق أن تركن سيارتك البورش على باب العمارة التي يقع فيها مقيل التجمع الوحدوي، وتصعد للمثاقفة في مقيل التجمع جالساً تحت صورة عمر المعلقة في الحائط.. إنهم في مقيل التجمع يذكرونني بالشرف دائماً.. الشرف الذي يمكن تفسيره على نحوٍ قاسٍ..
تدور الدعابات حول النقود المتعذرة على مثقف يسرد قصته مع هذه النقود بذكاء، ويرتب هذا الألم بطريقة مدهشة ويروق، وكأن هذه الهوة بين المثقف والنقود هي ما يجعل للمسألة الحقوقية معناها، ويمنحها وظيفتها الملائمة على مقاس حالة من التخلف ومحاولات تسليع الثقافة وعلى مقاس منصور هايل.
هو لم يقترض مني يوماً.. ولم يظهر أمامي احتقاراً للأثرياء، غير أنني لطالما سمعته يقهقه إزاء مخاتلات ومعارك صغيرة تدور بين الحياة ومثقف التجمع.
أكان عليَّ توضيح السيكلوجيا الثقافية التي أوردتُ فيها اسم عمر الجاوي؟ كأنني أؤكد على مدى احترامي للرجل.. وهذا حقهم بالفعل، ولمز اسم الجاوي عمل دنيء حقاً، لكنني لم أحب يوماً قلَّة مؤونة الرجل.. حتى أنني لطالما اعتقدت أنه عاش حياته على ذلك النحو وهو مسترخٍ كلية، وأنه لم يحدث يوماً أن خاض عمر الجاوي تجربة وَجَلٍ على شرفه أمام أي أحد، أثناء ما فكر مثلاً في إمكانية الحصول على سيارة.. غالباً ما يُحَوِّل الناس رجالاً بعينهم إلى غير ما كانوا عليه تماماً.. وإن لم يكن في حياتهم فبعد موتهم، كأن يتحول الجاوي إلى نوع من التربيت على ظهر الظروف السيئة.. على أن هذا الحضور الجاوي له وجهه المهم للغاية... إذ يبقى حضوره يمثل على الدوام نوعاً من الحماية وأصبع تحذير إزاء أي محاولة للاستعلاء على مثقف حضر بظروفه السيئة... إنه يسترخي بتعبه تحت حماية الرجل الكبير المعلِّق دوماً على الحائط..
أراهم يفكرون على الدوام في أشياء تنقصهم ويحيلونها إلى معضلات وجودية تدور عن أنماط صراع البشر، ويلحظ من يحدِّق في وجوههم تلك الهالات حول العيون وتلك البراعة في صناعة آليات دفاع ومشروعاتٍ روحيَّة يجيدها الرجال الحاذقون.
هل تورَّط بعض الناس مع الكتب ضمن حالة واقعية بسيطة لا علاقة لها بمجابهات المعنى الإنسانيِّ الذكيِّ ضدَّ الرفاه واستحالة حياة الرفاه؟
أي أن المسألة في الاهتمامات ومراكمة الخبرة في الحصول على الأشياء.. إذ تمنحك الكتب بعض الرضا، غالباً، وهي تفسر، أحياناً، ظروفك السيئة في سياق مهم وعميق.. بينما ينصرف آخرون للحصول على الرضا من خلال كسب ما هو أساسي أكثر وبسيط أكثر.
تقوم أشكال الحياة بمضايقتهم على الدوام وتمتحن صلابتهم وتنجز حالة فصل دائمة بين أكثر من تفسير لمفهوم الاسترخاء والشعور بالارتياح.. على أن هذا الاسترخاء -وفقاً لحياة المثقف- هو نتاج حالة روحية من نوع ما مِنْ الحفاظ على هذا الخيط الواهن الذي يبقي على المبدع معلَّقاً على واقعية دنيا تعلمه كيف يردد بلكْنة من رضخ للفكرة على مضض: الفلوس مهمة- الثقافة ليست كل شيء.. هذا على أساس من أن المثقف الذي يردد تلك الجملة لا يزال من ذلك النوع من رجال يرفضون التجوُّل بحنقهم الدائم، مردِّدين غالباً: الثقافة لعنة، وأشياء من قبيل كلمة الشريد المتعالي الذي خلص إلى أن (عاهرة تكسب أكثر من ألف مثقف)، فيستخدمون ذلك الوصف غالباً أثناء رثاء نمط حياتهم.. وتكتسب كملة (عُهْر) وجوداً ثقافياً في مستوى ثانٍ لما يعرف بالانتلجنسيا.. لكأنها توصيفات الجماعة الشعبية في الأقلية الثقافية.. إنهم مُحقون في إظهار ازدراء كل الذي يتعذر عليهم الحصول عليه وامتلاكه، ولا شيء هنا يمكن إثباته أو دليل يؤكد أن مثقفاً بعد أن أخْفَقَ في الحصول على امرأة وصفها بالعاهرة.. لكن هذا المتعذر إجمالاً من البدلات الأنيقة إلى النساء الجميلات والعطور يأخذ مع مرور الوقت نزق التعبير عن علاقة كريهة بين الإنسان وما يحتاجه بشدة..
لقد تجاوز الوعي الثقافي المتداول الآن تلك الفكرة الساذجة عن العلاقة الشَّرْطِيَّة بين الظروف السيئة والإبداع.. وبقي الألم بمعناه الوجودي كلمة فن غامضة تجد تفسيراتها في أكثر من سبب في حياة المثقفين وعوالمهم السرية.. أشياء لها علاقة بالطفولة والجنسانية، دون أن تقترب كلمة الألم تلك من فكرة الظروف السيئة.. أسمعهم يرددون: الظروف الجيدة باعث إبداعي أكثر من غيره، وكأنهم بذلك يتعالون على طريقة قديمة في فهم بواعث الفعل الإنساني الخلاَّق دون أن تتغير ظروفهم، مع أنه في الجوار تتغير أشياء كثيرة ويحصل حمقى كثيرون على ليالٍ في فنادق يحلمون بها ويرون واجهاتها في الأفلام، هناك.. ربما أمضى غبيٌّ ليلة في فندق حياة ريجنسي، وفي الغرفة التي استلقت فيها كاترينا زيتاجونز بطريقة مثيرة.
دنيا تمرُّ إلى جوارنا جميعاً.. في طائرات ورحلات بلا دورات تأهيلية من أي نوع... أناس ينتجون أنشطة يمكنهم بيعها بدون برامج روحيَّة.. كم حصل وجدي الأهدل مقابل واحدة من محاولاته الروائية.. وأي معنى لمحاولة روائية بعد سلسلة (هاري بوتر) التي حققت مئات الملايين من الدولارات.. لا ندري كيف نقايض النشاط الوحيد الذي نجيده مقابل حياة ملائمة وبغير ما اختبارات من أي نوع!!
أراقب أحدهم وهو يحدق في كوت أحد رجال الأعمال الذي يبلغ ثمنه مئات الآلاف.. كان يريد هذه البدلة ويتمناها في أعماقه دون أن يتباهى على هذا الرجل الأنيق، أو أن يلجأ هذا المثقف لحيلة قديمة في إظهار سطحية وجهالة المحظوظين.. كأن يسأله بلهفة عن ساحات روما وخياطيها الشهيرين، مشيراً إلى ولعه بياقة الكُمِّ البيضاء وياقة العنق وتلك الصنعة المتألقة، دون أن يغفل الحديث عن ميراث عصر النهضة في تلك الساحات التي يحفظ المثقفون وحدهم أسماءها وحكاياها.. الساحات التي لها علاقة بالمواعيد وفضاءات الحرية.. الساحات التي تقود آخر الأمر إلى خياطي بدلات شهيرين وتقود إلى فنادق..
كان هذا المثقف يحتفي بمَرْمَرِ ساحات روما ويودُّ لو يصطحبه رجل الأعمال آخر النهار إلى أحد الفنادق الشهيرة.
حتى أن ذلك الرجل قد أشار إلى غرابة أطوار المثقفين واهتماماتهم بالساحات والمباني القديمة، وأن هذا القدر من الدهشة جدير بالحَسَدَ حقاً.. ثم أنه -في ما أظن- قد أشار آخر الأمر إلى حكمة الله في توزيع أسباب السعادة..
كان هذا المثقف قد أخبر عن مغامرات عاطفية وأفكار مدهشة اقترفها في لندن وبرلين، دون أن يتأكد لأحد أنه لسبب ما قد مرَّ على واحدة من مدن العالم غير القاهرة التي زارها في دورة تدريبية وببدل سفر مائة جنيه مصري، التهم أيامها أطباق الكشري والتُقطت له صورة في مقهى الفيشاوي وكتب بعد عودته مقالات عن أم الدنيا وما شابه.
مؤخراً.. يحاول المثقف مقايضة تفكيره بحياة، ويريد أن يدخل من هذه الفكرة الإنتاجية -بعض من أعرفهم على الأقل- لكن مستهلكاً واحداً جاهزاً للمقايضة، المستهلك التاريخي المعروف.. السياسي.

يقول أفلاطون في (الجمهورية):
عندما يكون لديَّ نقود أتمكن من شراء قربان وأذهب إلى جبل الأولمب.
"النقود تجعلني أكثر قرباً من الله".

* المادة نشرت في مجلة "صيف" عدد أغسطس 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق