الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

من غير الحكيم الركون تماماً على براعة القبطان

محمود ياسين


أسمع دوي المدافع من تجاه الشمال.. قريبة من صنعاء, وأذكر أن وزارة الدفاع قد أعلنت, في احد بياناتها, عن تقدم الجيش وانتهاء العمليات في "بني حشيش", وكأننا بصدد تقصي أخبار معارك ما بعد الثورة.

لم يعد ملائماً تقديم النصح لوزارة الدفاع والقول بأنه من غير الحكيم بث بيانات عسكرية كهذه لها علاقة بطبيعة الأوضاع على الجبهة الشمالية لعاصمة مكتظة بأناس كانوا لا يزالون قيد الطمأنينة حتى وقت قريب.. ضمن اعتقاد لكون الحرب لن تتجاوز صعدة.

المهم أيضاً أنه ما من ردة فعل لأناس فوجئوا باقتراب الدانات من نوافذهم.. ولا يوجد مقياس عالمي لردات فعل خطر الحروب, غير أن الناس لا يزالون في الحارة قادرين على البحث عن روتي آخر الليل أثناء إصغائهم, بطريقة (لا تخلو من الدهشة), لدوي المدافع.

أحدهم كان يبحث عن طماط وتفسير مطمئن لما يحدث من الصحفي الذي صادفه في البقالة. كان الموضوع ابتداء فكرة أننا لم نعد نشعر بالخطر. لسنا سكان بيروت أواخر السبعينيات حيث الركون إلى أنه لم يعد هناك شيء قابل للفقدان, وحيث لا أمل لأن القناصة لن يغادروا أسطح وسط بيروت. غير أننا نشبه لامبالاة المنصرف كلية لمخاطر أخرى.. مخاطر غير استراتيجية.

مثلاً... يأتي دوي المدفعية من النافذة الشمالية. يأتي من بعيد عن البيت, فيما أنا ساعتها بحاجة لنسمة صيف تأتي من ذات النافذة.. بودي لو أنام ولا أتعرق. ثم إنني فكرت في مشروعي الصحفي, وتصريح المجلة, وكيف أقنع وزير الإعلام بكونه أديباً يجدر به مساندة الصحافة الأدبية. بقيت على أرقي لأسباب لا علاقة لها بجبهة الشمال القريب. مضيت في طموحاتي حتى النهاية, وفكرت في أدب أمريكا اللاتينية وتفاهة بعض الناس. فكرت مثلما أفعل عادة اللهم إلا في كون صوت حرب مشارف العاصمة قد مكنني من استعادة الاسم المدهش لفيلم "لا شيء يحدث على الجبهة الغربية". اسم أنيق ابتكره روائي (أرش ماريا ريمارك) من ذلك النوع من رجال تفصح نتاجاتهم عن شخصياتهم المتعالية والحاذقة.

وكوني قد حاولت إظهار أهمية اعتبار أنفسنا معنيين بالحرب, ولو من قبيل احترام المهنة المنصرفة كلية لما هو حيوي وخطر, فقد حصلت على رسالة في ذات الليلة من صديق اقتطع فقرة من مقالة أحدهم عن الحرب. تظهر تلك الفقرة كم أن هذا الرجل ساذج ومتحمس وغبي أيضاً.

نوع من التأكيد على أن في هذا العالم أشخاصاً أغبياء في الحرب. الرسالة وصلتني على سبيل التهكم وكيف أننا كنا محقين أثناء سخريتنا معاً من هذا الأخرق في مقيل الأمس. كانت الفقرة نوعاً من تحذير الكاتب لكون الحرب تهدد الوحدة الوطنية.

لا أدري كيف أسهبت في تفاصيل ودلالات الرسالة. وكل ما هنالك أنه ما من سبيل للشعور بأن هذا خطر للغاية..

ربما لأن ذاكرة البلاد تكاد تخلو من تفاصيل المذابح والاغتصابات الجماعية ضمن سياق الخبرة الجماعية التي تربط بين القادرين والحرب, وإبقاء الأمر هناك في ما بينهم.

نحن, بطريقة أو بأخرى, نشبه ضابط المراقبة على صارية سفينة "التيتانيك", في حادثة الغرق الشهيرة, حيث حالت خبرته لربع قرن بينه وبين الشعور بالخطر. وعلى مدى تلك السنين خبر البحار قدرة رجل الدفة على تجاوز جبال الجليد في الوقت المناسب.

كانت "التيتانيك" أثقل حركة من خبرة المراقب فحدثت الكارثة.. أظن بلادنا أصبحت أثقل. ومن غير الحكيم الركون تماماً على براعة القبطان..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق