الثلاثاء، يوليو 03، 2012

فصل من رواية "تبادل الهزء"*

محمود ياسين

منذ غادر قريته باحثاً عن احترام وتقدير للذات يخفف عنه وطأة عار المغرم المرفوض، كان يسترجع تفاصيل هوانه رسالة رسالة؛ محاولاته البائسة ليبدو عاشقاً لامعاً ينادي محبوبته: يا بنت الإغريق. كانت بنت الإغريق قد سلمت رسائله لأخيها وبدوره سلمها لأخيه الأكبر. كانت إغريقية وكانت آلهة تفتقر للنزاهة شأن أثينا، والعزي لم يكن «الهيرو» فعاقبته بلعنة المذلة يحملها معه في البيجو ويلوكها مع القات وتثب عليه من بين سطور المقالات. لطالما وصفها بالفتاة البارعة الجمال تفكر على طريقة خنفساء، قرأ عن غباء الجميلات ونهاياتهن الحقيرة، يتقدم ويركض ويروق ويمجد جمال الروح ويحصل على صداقات ذكية ومقالات ثناء على موهبته، وبقيت هدى تترصده بلا هوادة. مذلة تغتال نجاحه المدفوع بالبحث عن إنجاز يقاسمه العار، وكل ما بذله من جهود لاحتقار هدى تساءل: أتراها تقرأ ما أكتبه؟ المعجبة الأولى بالعزي وصفته بالموهوب الذي يعاني انفصاماً في الشخصية، في الأسبوع الثاني من محاولتها الرومانسية مع كاتب لا تدري ما الذي يلاحقه. المعجبة الثانية كانت من الذكاء بما يضمن تفهم مزاج المبدع والشغف بغرابة أطواره. كان العزي فخاً مموهاً بخفة الظل سخياً وقريباً من القلب، متهكماً وخفيفاً وكامل الضربات وكأنه الشيطان في رواية المعلم ومارغريتا، قوة من لا يريد شيئاً، قوة من لا يتعلق بشيء، حيوية من لا تهدده غراميات، وعندما يريد تقفز الرسائل القديمة من مكامنها وتحيله جثة في يومها الثامن. تتهدده الرسائل من جديد وتطفو نقائصه على السطح دفعة واحدة. يصبح العزي أخرق، يهرب من المواعيد ولا يكف عن التذمر ومحاولات أن يبدو لامعاً، دعاباته تصبح سخافات ومحاولاته تدعو للرثاء وينتهي الأمر بتلميحات جنسية مبتذلة. العزي حبّوب وفاتن عندما لا يريد... صديق رائع ومبهج بين زملائه غير أنه يصيب المعجبات بالإحباط. كائن كافكاوي «فكرة رائعة في مخيلة صديق ويقظة سيئة للذات»... ينكمش البنطلون ويُصطرع لونه مع مربعات الكوت، بين يدي هدى العصية على الرضى خطوات وأداءات وكيف ينسى؟ أي حائط يكفي، وأين يختبئ من لعنة تراقبه وهو يمضغ القات مثل عامل طلاء باليومية. لا تروقها مداخلاته النابهة ولا تكف عن مط شفتيها أثناء تجلياته الرومانسية... يتحرك أمامها يخفق ويحبط ويصطرع مع شكله وهواجسه، يصبح مسخ الدكتور فرنكشتاين ويمسي كلباً مضطهداً أعمى، يتكوم في ركن العالم وحيداً إلا من شماتة هدى وليلها المفتوح على احتمالات رجال العالم إلا عليه. ويبقى هناك منفياً، وحاسداً. دمغته بنت الإغريق بعذابات العالم ومذلاته، يجوب الروايات باحثاً فيها عن تعريفات إبداعية ملائمة لذوق هدى ورأيها فيه، ابتداءً من «كلب مضطهد أعمى» مروراً بمسخ الدكتور فرنكشتاين وليالي الملقى هناك حاسداً ومنفياً، وعندما حاول في ذروة مازوخيته أن يكون «أحدب نوتردام» كانت هدى جميلة ومسيجة ليست بحاجة لشجاعة أحدب يذود عنها ببشاعته النبيلة. وأدرك أنه ما حارب لأجل المقهورين على أعمدة الصحف وإنما لأجل المقهور الذي كانه. الأيتام والأرامل والمخذولين، مضطهدي الأبواب المغلقة الهائمين على قلوبهم، نماذج متعددة لمضمون واحد من الإذلال الإنساني. كان يجد فيهم دفء القطيع وملاذ التضامن الإنساني تجاه المهانة. وبغير تخطيط كان المتحدث الرسمي باسم الملعونين... ويتلو لسعدي يوسف ليلة الأحد الثانية، المساء المهيأ ينتقل الآن بين العمارات يدخلها شقة بعد أخرى حاملاً في قرارة أكياسه المنتقاة هداياه لحماً قديداً ورطلين من سمك داخن وزجاجة فودكا، وخبزاً وخمراً وأغنية للبياض البهيج، المساء المهيأ حصّن عُشاقه خلف أبوابهم ومضى دون أن يتذكر أني وحيد بعيد، وأن الأصابع مرهقة بالضجيج.

دوّخته صنعاء؛ دراسة جامعية متعثرة وفنادق الموجة الأولى من الفضائيات رفقة النزق الفقير مع ديون الأصدقاء الباحثين عن سخاء التلفزيون الفرنسي. كان العزي قبيل الصحافة ثالث ثلاثة قرويين جائعين يعولون على كرم الغزو الفكري وبذخه وملابسه الداخلية، يرهنون ساعاتهم اليدوية مقابل ليلة ملاذ في غرفة بأحد فنادق شارع تعز. أحواض ساخنة وقنوات متقلبة المزاج وفقاً لخيارات الريموت المركزي القادم من غرفة استقبال الفندق، قابضين على أطراف الأسرّة في انتظار عري فضائي لا يكف عن كونه تهديداً، غالباً ما يعود موظف الاستقبال إلى الله فينحرف بهم إلى قناة اقرأ، وتبدأ اتصالاتهم وتوسلاتهم مفصحة عن رغباتهم المذلة ولا ينامون. يغادرون الفندق على صباحاتهم اليابسة الباحثة عن مخابئ. ما أكثر العيون المترصدة لنزق الفقير المشوش بسيكلولوجيا المقامر: والله ما نرجع فندق كل واحد يدوّر أَهيل أو صاحب يرقد عنده... يهبط القات المستهلك من أفق التفهم ومساندة الطلبة، عمال باليومية وتجار صغار من أصحاب البلاد يتجشمون فداحة الرعاية مقدمين للثلاثة قاتاً وسجائر وقروضاً بائسة معدومة. يبهرونهم باستخلاصات حاذقة عن الأحزاب والفساد وحقوقهم المؤجلة، عن مستقبلهم المفتوح على نفوذ ما بعد الجامعة. صغار التجار والعمال باليومية يعلقون على العلم آمالاً عريضة ويكنّون له احتراماً عميقاً، وكان الثلاثة يحصلون على النشوة القليلة على حساب هذا الاحترام للعلم. متعلمين من البلاد ينبغي مساندتهم بغير ما فضول عن لياليهم المبهمة. يهبط الظلام فيتبادل الثلاثة نظرات التواطؤ والأسئلة عن مصير المزاج تحت رحمة ضجر ما بعد القات في مغرب موصد على عتبات مدينة عدوانية لا يعرفون فيها جسداً ولا ستائر مسدلة. لوكندة أهل البلاد توقظ القمل والمرارات، لياليها تكسر النفس وتلحق أضراراً فادحة بالمروءة، باب اليمن مزدحم ولا مبالٍ والفترينات الزجاجية بشارع حدة تعرض كل ما هو أملس ومستحيل؛ تلفزيونات بشاشات عملاقة تقزم فيهم ذواتاً متعالية ومتشردة. من يشتري غرف النوم الباذخة وماذا يدور خلف نوافذ فلل الحي السياسي! عيون تتسكع بين البوابات الفخمة والنوافذ، ظلال أنثى في طريقها إلى حمام، دنيا دافئة ملساء يتلصصون عليها بخلاعات وعيهم الباطن. هم لا يحقدون لكنهم لا يحبون أنفسهم في المنفى، وبرد صنعاء قارس والأتربة تتراكم على القلب ولا يعدمون شجاعة المقامر لرهن خصوصياته مقابل احتمالات ربح عري تلفزيوني متقلب المزاج.

وتبدأ تبعات يقظة متأخرة والتوق حتى للصلصلة. يشتهي المعدم كل شيء يدرأ عنه تقلبات الوجوه والأمكنة، يرغب في ثوب نظيف وكوت أسود و"قيلة" محترمة على حساب ذات مطمئنة ومشمولة بضمانات عمل وراتب أكيد. حاولوا أشياء كثيرة من أحزاب اليسار إلى العودة إلى الله، وحلف عبدالعزيز يميناً بالله العظيم "يا عزي ما يصدقوك الإصلاحيين إلا بعدما تصلي عشر سنين فجر حاضر، وبعدا يبحثوا ملفك." أهم شيء الآن حصلنا فندق يدي الريموت ليدك وشوف هذي قناة جديدة صورتهم ما يعرفوش السراويل." أكد العزي أن لهجتهم روسية صارخاً: الروس قادمون، في اليوم الثاني تابوا إلى الله وعادوا إلى القرية وأذن العزي فجر ميلاده كآخر مرحلة في رحلته من الظلمات إلى النور، وبعد أسبوع ألقوا عليه القبض في باب سينما اللواء الأخضر، فاستراح من صلاة الفجر ومن وحشة السمعة الحسنة. في الأسبوع التالي أقسم يمين الولاء لحزب الإصلاح مستعفياً من صيام الاثنين والخميس ومن الرحلات الكئيبة.

كانوا متفهمين على أبواب انتخابات نيابية والعزي مثقف قرأ ما يكفي وأخطأ بما يكفي وعشق بلا اكتفاء، حتى أنه لم يكن ليجد الوقت الكافي ولا الشجن لاجترار تفاصيل مأساته الإغريقية مع هدى. وعيه الجنسي أبقى على أمرية وقوداً لخيالاته الشتوية حد العمى، فالتي تمر من أمام البيت واحدة مسكينة، واقع جسدي لا يستيقظ إلا بعد القات، خطيئة متخيلة دون حقيقة امتلاكها، يأس يقيني وعيون إصلاحية. استراح منها في وهدة ضياعه وانقساماته، وفي غمرة بحثه اليومي عن قات وسجائر وكتب وصك إصلاحي يعترف به «باحثاً عن الحقيقة»، دودة تبحث عن الحقيقة بوقاحة، لا يدري كيف أمسى متهكماً أيضاً. هكذا فجأة، تهكم العزي من المؤتمريين فضحك الإصلاحيون حتى بدت نواجذهم، فتهكم وبرع في التهكم وقرأ ذات بحث عن الحقيقة أن السخرية سلاح الأعزل. تعددت خياراته فاستراح من وطأة الشخصية الواحدة؛ يستيقظ دودة ويصلي الظهر عائداً إلى الله، يمضغ القات بسلاحه كمتهكم أعزل قرأ كتباً كثيرة أعفته من البحث عن النساء بالبحث عن الحقيقة، ثم إن البحث عن امرأة أفدح من البحث عن مصحف جلدي مطلوب لمنظمة دولية تعنى بالمخطوطات مقابل مليون دولار. لم يقلب حتى في خزانات العائلة على ما تتمتع به من سمعة تراثية مشجعة، اكتفى بالخيال المتفائل. لا أحد يتوجس من خيال يبحث عن مصحف جلدي في خزانة الحاج عبدالحميد، ومن يرى عزي متخيل ينام مع جميع النساء! لم يكن العزي شيئاً، فاستباح كل شيء كما فعل الكاتب البلقاني كميروفتش، الذي قدم للعزي غطاءً أخلاقياً للتخلص من الأخلاق. وعندما اشتعلت الانتخابات النيابية وعدوه بوظيفة فانضم للمؤتمر، ماطلوه وكان يائساً من مطاردة ثمن بخس، فامتلأ بأزمته الوجودية منحازاً إلى كل ما هو ضعيف ويتيم، يحدق في النهايات واللاجدوى مغتبطاً برثاء الذات وعذابات الآخر. ألقى بكل شيء على كاهل الصدفة فوضعته في طريق الصحافة، كتب في كل شيء: الدين والميثولوجيا، وثلاث قصص قصيرة وترجمة مدهشة للصراع المأساوي بين همنجواي والموت. على أن الأول مصارع ثيران أصيل أنجز روايات تتحدث عن جيل الحرب الضائع، وعلى أن الثاني (الموت) غريم أعمى طائش الضربات ولا يكف عن كونه استفزازاً لجبروت القلوب القوية، وكيف أنه على الرجل أن يذهب إلى الموت دون أن يقع في جحيم فعلي، وأن يتصرف طوال حياته كخاسر ومحتقر وكدمية لا قيمة لها.

توهج العزي بنموذجه الأثير ووجد فيه مثالاً للتبول على رأس دنيا تقذفك إلى الميدان أعزل، وعند أول خطأ يقتلونك. أحصاهم ورتّب لهم جحيماً بقي شاهداً على فوضاه؛ حسن حمادي وعلي عبدالكريم وياسر وابن خاله وخاله والعابر ذات عصر وجندي الزكاة وصاحب دكان القرية والأستاذ حسن، وعبده ابن عم العزي، الذي ذهب إلى الموت عبر جحيم فعلي وتصرف طوال حياته كخاسر ومحتقر وكدمية لا قيمة لها. لم يكن أمام حسن حمادي غير البحث عن قبول مستحيل، تزوج ابنة الوجيه وفرغ لانتظار خسارتها، مضغ القات بفم دمية مركوزة في مقيل لا يشتعل إلا بعدمية متسامحة، يتقاذفون أسراره الزوجية وحياته الخاصة التي تتسرب من أصابع النسوان ويلوكها رجال بنت الوجيه الفعليين بشماتة، لطالما جهد حسن في التغابي فيما كانت قرون الثيران تغرز في فراشه. منذ الليلة الأولى حدق حسن في وجوه الشواعة بذهول من لم يصدق أنه زوج بنت الوجيه، يحدق من طرف الوسادة في ملامح زوجته غير القابلة للامتلاك، يحدق برأسه الكبير الضاج في أنفها الحاد كمن يراقب من حرف حيد وينزل بعينيه إلى سفح نهديها كمن يتلصص من بين المارة، وجهين لخسارة واحدة، وبينهما وسادة يتشمم فيها حسن رائحة رجال كثيرين. توليه ظهرها فيحك أعضاءه الحساسة مصغياً لأنفاس نومها اليقيني ويبدأ في ممارسة العادة السرية، متخيلاً زوجته في حمام بيت أبيها. ومع الأيام اعتاد رائحة الرجال على وسادته الزوجية وأدمنها حد ممارسة العادة السرية على مشاهد افتراضية يراقب فيها زوجته جاحظة العينين من فرط اللذة مع رجل بلا ملامح، رجل غيره يتحاشى الإمعان في تضاريس جسده كي لا يعرفه. ذهب حسن حمادي إلى الموت دون أن يدرك حتى جحيمه الفعلي لكنه تصرف طوال حياته كخاسر ومحتقر ودمية لا قيمة لها.

تعلم العزي من همنجواي كيف يمتلىء ويحيا على احتقار حيوات أخرى. الامتلاء بالنظر من علٍ إلى دنيا تافهة ومكتظة بالعذابات المجانية. العالم باعتباره حسن حمادي في أكثر صوره جلاءً، عالم لا شيء فيه غير التفاهة وعذاب الروح، وحيثما حل فائض من العلم، حل فائض من الحزن، ففاضت أعماق العزي حزناً منحه شعوراً بحب نفسه. بدأ العزي يغرم بالعزي. أثناء رثائه المصير الإنساني كانت دنياه منتزعة من ومضات أدعية بشّر بها بحماس مفرط دونما توخي الحذر، ينام في مسرحية ويستيقظ في لوحة ويكتب محاكاة في طريقها إلى الجدة والأصالة. هكذا كان يعد نفسه ويعلم في الوقت ذاته أنه سيدفع ثمن حماسته المفرطة وتوحده بميتافيزيقيا وأدب أمم أخرى، أمم تخلصت من ذهنية التحريم، أمم لا تمضغ القات.

***

ما سبق محاولة معقولة لتبرير اكتظاظ محاولة روائية بروايات ومقولات متداولة، وكأننا في بحث نفسي عن سيكلولوجيا عزي متباهٍ أو عزي يصدق كل الذي يقرأ. لكن ذلك هو العزي وذلك ما حدث له بالضبط، حتى أنه في نهاية الأمر بدأ يحاول أن يشعر، بدأ يستثمر الأدب في الحصول على مشاعر تقربه من نفسه أكثر؛ حوّل الروائيين إلى قوادين بينه وبين ذاته وانتهى الأمر بقراءة «عندما يبدأ استثمار الدموع.. تكف عن كونها دموعاً»، ففقد الحزن الفائض لأجل مصائر الآخرين ومعه فقد علاقته الغرامية مع نفسه، وبما تبقى لديه من كلمات وأساليب استعراضية حاول العيش على حساب المواقف السياسية فأدركه الضجر وعاوده الشعور بالضياع، ووقع مرة أخرى في لعنة هدى و "أنا العزي أنا كاتب أنا...". وفي الليالي الباردة يحاول يائساً نبش مقابر حسن حمادي ليجد في رفاته بقية من تضامن إنساني يعيد إليه ساعة من أيام الحزن الجميل: «خلاص، أقسم بالله، أقسم بالله ما استثمر الدموع، الله! مسكينة مرة الأعرج ستموت وحيدة، إن البكاء صلاة المحاصر... خلاص، حقي معي، لازم أفعل شيء، يجب فعل شيء، على المرء أن يكون شجاعاً ونزيهاً ليجد ذاته مرة أخرى، ربما في قصة حب عنيفة، ربما في العودة إلى الله أو العودة إلى القرية أو على طريقة إيزابيل الليندي عندما حاولت تضميد جراحاتها لرحيل ابنتها باولا بكتابة رواية اسمها «باولا»، فلمعت في رأس العزي فكرة الرواية ولكن بحثاً عن الحزن.

* "تبادل الهزء" .. رواية مخطوطة للكاتب تصدر قريباً. وهذا الفصل نشر في صحيفة الثوري.

هناك تعليق واحد: