الثلاثاء، يوليو 03، 2012

مضى زمن بدون فرح


محمود ياسين


عندما لا تكون الحياة متطلبة، وعندما كنا أبرياء، كان الفرح تلقائيا وبسيطا مثل صديق قروي.

كنا نفرح ببنطلون جديد وتذكرة سينما وأغنية "رسالة من تحت الماء".

تصبح الحياة أكثر تعقيدا مع مرور الوقت.

كنت أقرفص على ودن الأحوال الشرقية بقرية "الدنوة"، وأمامي الهواء النظيف وإيماءات مستقبل أكون فيه كاتبا وأمتلئ بالغبطة.

في "الدنوة" كنت بلا خبرة، وبالتالي بلا ضغائن، أجلس بينما تتساقط أمطار العالم الدافئة داخلي، ويتموج القمح خلفي في مزارع "الجبابب"، وأنا محب وشغوف وراضٍ.

تدمع عيني بلا تكلف، وأدندن ما كان أيامها تناغما وموازاة لطريق سير دنيا تحاذيني دون أن تطلب مني أن أكون ذكيا.

كان مصلى المسجد باردا مثل برودة الحصى والماء حين المغرب، والشيبة يتسللون من باب المسجد الى المصلى يجمعون المغرب والعشاء، وأنا بلا موهبة مضنية تحاول إبهار أحد بسرد كيف يتسلل الشيبة وكيف يجمعون الصلاتين.

الإصلاحيون أصحابي وأنا مستلقٍ في المصلى لست ملزما بنقدهم ولا تبصيرهم بخطورة المرحلة.

لم أكن أيامها أدعي الإحساس بأنني منذور لشيء عظيم، أو أن يدا تشير لي نحو المجد، كنت أحيا فحسب.

500 ريال في الجيب وفيروز تغني من راديو مونت كارلو: "كان في صبي، كان اسمه شادي".

ربما تكون الـ11 ليلا، ربما أكثر، ربما أقل، لا يهم. السيارات المتأخرة من إب توشك على دخول "سوق المجمعة"، وأنا أتملى السيارات من السطح، وأفكر أن فيها رجالا متأخرين على زوجاتهم الرعويات المكتنزات، وأن الطريق إلى البيت أكثر دفئا من البيت.

تمر عليك أيام تتواجد فيها بلا عناء وجودي، متخففا من بؤس الإمعان، ومن حذاقة الرجل الخطير.

تمر أيام تشعر حينها بالعطش وسقعة ماء ليالي "الدنوة" وهسهسة الزرع.

في المساء تقوم بتركيب أبيات من البردوني ودرويش وامرئ القيس، على أنهم أنت، ويتنامى داخلك الرضا والجذل.

يخطر لي الآن وجوب تحويل هذه الثرثرة وهذا الهادئ الخاص بي إلى مقالة لصحيفة "الأولى".

ما أسوأ أن يصبح فؤادك قيد الاستثمار، فجأة يجرك استثمار فؤادك الى التحاذق الوجل من أن يحول شيء ما بينك وبين استثمار أكثر همهماتك خصوصية، إذ ربما تنطفئ الكهرباء قبل أن أرسل الموضوع، وأنا الذي كنت في "الدنوة" بلا كهرباء إلا ما يومض داخلي من تضامن إنساني ورفقة بعوالم الشجن المسائي دون أن أضطر لإرساله لأحد.

أصبح الأمر غريبا الآن.

تحتاج لكل الذي ليس متواجدا لتفرح.

وما الذي في هذا العالم كله يمكن أن يكون كافيا لقلب فقد القدرة على الفرح؟

يشبه الأمر لعنة إغريقية لرجل طلب من الآلهة ذهبا، فكان له ما أراد، وأصبح كل ما يلمسه الرجل ذهبا.

لست مشهورا للحد الذي أتبرم فيه من متاعب الشهرة، غير أن شيئا من مقولة المثل الصيني: "احذر مما تتمناه"، تلحق بي آثارها.

إذ لطالما تمنيت أن أكون كاتبا، وها أنا أتلوى تحت قبضة الكاتب الملزم تجاه مواقفه وتواجده، ودهشة قرائه، مغفلا كل ما أنا عليه في صميم كياني وتواجدي، وضروب ضعفي وبساطتي.

لا أحد يختار كل ما يلائمه من مجمل أحلامه ورؤاه، لكننا نمضي على أية حال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق