الأحد، يونيو 16، 2013

السالمي والهيصمي


محمود ياسين

أتعرف لشخصيات بالغة الثراء والحيوية، لديهم فقط ذلك الصلف والرعونة تجاه الوجود.

يروقونني كثيراً، وأدفع ثمن رعونتهم على هيئة ردح شخصي ضدي يقدمه أحدهم بشغف همجي جذاب لا يسعك وأنت تكرهه إلا أن تهمس لنفسك: كم أنك بارع أيها الهمجي ولو كذبت.

هناك مشكلة في الكتابة عن هؤلاء. يمكن اقتراح اثنين منهم مبدئياً: صادق السالمي ومحمد الهيصمي. الأول سوسة وجود نزق ومنفلت وتجريبي، دماغه مكتظ بشفرات الكتب ، متحيز للمؤتمر والزعيم ربما بدافع التجريب المدهش.

والثاني سوسة كتب ومتصفح ذهني لتطور مدارس الفن، ناهيك عن كونه الهيصمي القناص لبعض من أكاذيب التاريخ الكبرى التي اعتدناها مثل لص لطيف المعشر. وهو مؤخراً قد أصبح متحيزا للإسلاميين على نحو محير.

هما مؤذيان وفاتنان ونقيضان، وكلاهما يكره الآخر. صادق يكره محمد، ومحمد يكره صادق. والمدهش أن أسباب كل منهما لكراهية الآخر، وجيهة تماماً، ومقنعة. والغريب أيضاً أن دوافعهما نزيهة في هذه الكراهية، وفي عروض الهمجية العابرة. غير أنني أحيل أحياناً على فكرة أن ثمة إنساناً نزيهاً تدرك نزاهته حتى وهو يحاول قتلك ظلماً، لكنه مدفوع بانفعال صادق.

واحدة من مآسي هذه البلاد هي العمل في حقل العاقل التاريخي: رئيساً كان أو موقفاً سياسياً أو جماعة، حيث يستقطب أبرع الأدمغة لتعمل في هذا الحقل بجهد الجلافة، مستخدمة عضلاتها الذهنية ضمن عملية قلع وجرف بالغة الضراوة.

لم يقل أحد عني ما هو أكثر قذارة من مقولات السالمي، لكنه بارع ومثقف كبير ونادر ومجنون وقليل أدب وجذاب. أما محمد الهيصمي فهذا رجل منشار تحت رحمته ركام من جلامد تاريخ فني واجتماعي متخشب ينخره الهيصمي ببراعة من خبر ضغط الزمن والتحولات، وتقديمها لك مضغوطة، وفي متناول ذهنك، لرؤية تضاريسها وتشوهاتها، وأسباب عطبها السريع أو طويل المدى.

للهيصمي رؤى ومخطوطات ورواية وسيناريو مسلسل بقدر ما هو جذاب بقدر ما أخافني، إذ كيف أسير مع هذا السيناريو وأنا أدرك مسبقاً أنني سأتخلى عنه رغم وعدي للهيصمي في لحظة نخيط صحفي، بأنني سأجد طريقة لإيصاله إلى حيث ينبغي أن يصل على رأس التبة جوار استاد الثورة الرياضي، حيث يقبع التلفزيون في الركن المخصص له من حقل العاقل التاريخي الذي يلاحقنا جميعاً، ويدفعنا للعمل وهو يسعل.

كلما أختار دماغ معرفي، الرضوخ لحماية عمامة أو قوة عضلية تحميه أو تمده بسبب وجيه ومتراس لمناقضة شكل آخر من التخلف؛ ترعرع الحقل المهلك يمتص حيوية الفكر وفتوته، وضروب نزقه التجريبي الباحث عن نمط حياة أرقى، كما هو الحال عند السالمي وهو يختبر كل يوم أنماطاً متجددة للعيش الأرقى، حتى ولو عن طريق الهمجية.

أخشى أننا عندما نعدم المكان الملائم للتواجد الأرقى، أن نتحول لمعتوهين واثقين من أنفسهم. حيث لا نعود نستمد التجريب من حيثيات ذهن متقد عارف وجريء ومدرك، ولكننا نتمسك بذلك الحس المجازف الاختباري من أجل إمضاء كل يوم بشكل أفضل لحياة فردية ينبغي أن تعاش، مستمدين تلك الجرأة التجريبية من النزق. النزق المتبقي من اضمحلال دماغ الإنسان الذي كان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق