الأربعاء، أغسطس 29، 2012

لا تستلم وأنت تغادر شارع العدين


محمود ياسين

أكتب مجدداً وفي ذهني أناس شغوفين أو شغوفون في طريقهم المسائي إلى قراهم, ينتظر أحدهم سيارة الفرزة وفي يده صحيفة الأولى متأبطاً موعده معي حينما يجلس في البيت ونتبادل أنا وهو حديث الأسئلة وتخوم الاكتشاف الإنساني للذات والوجود ويمسي وجودي إلى جوار هذا القارئ شكلاً من همس الغرباء لبعضهم.

كنت أختطف الدوريات الثقافية من كشك المعرفة بالمركزي وأتعجل الباص بعد أن أتأكد من وجود العدد الكافي من الأسماء الغربية في المطبوعة, ذلك أنني لطالما اعتقدت أن الكتاب الغربيين هم الأقدر على البوح وتبادل الاعترافات والرثاء المتعالي وكأنهم بتلك اللكنة الشافية يتفهمون ضياع الإنسان في مساءات شارع العدين ويمنحونه ما يكفي من مؤنة التهكم ليتمكن من مجابهة أسئلة الأسرة عن كل الذي يخفق أحدنا في جلبه من وظيفة وتواجد في بيئةٍ تريدك مداناً ومقصراً وتنتظرك كل مساء لتقيم لأجلك طقس خيبة الرجاء في حمى منافسة القرويين لبعضهم من خلال أبنائهم الطلبة حتى يقصموا ظهورهم.

كان عليَّ العودة كل يوم بكذبة جديدة عن رئيس فرع إصلاح أو مؤتمر سيؤمن لي درجة وظيفية بالثانوية, وكان التعب يدركني, ذلك أن الكذب مرهق أحياناً, وأتساءل أين أجد غربياً يكتب تهكماً عالمياً مبهراً ضد العائلة ليرافقني إلى القرية ويهمس في أذني "تبول على رأس العالم يا فتى".

لقد كتبت كثيراً عن هذه الوضعية المتأزمة لخريج الثانوية الذي يدمن القات والأكاذيب الوظيفية ويرزح تحت وطأة طموح عائلته التي تقذفه إلى الميدان أعزل وتقتله كل ليلة.

ذلك أن هذا الألم هو الأكثر جلاءً وتداولاً, وهو ما أراه وأصغي إليه كل مغرب في صدور الفتيان بشارع العدين, أو في الحصب بتعز وتكرار الوضعية المتأزمة لجيل يحتاج لمزيج من روح بوذا وغاندي والنبي صلى الله عليه وسلم وضغينة المتهكمين العظام في الدوريات الثقافية ضمن جهد مأسوي لمخاتلة خيبة الرجاء والتحديق في الأرجاء بهلع الحياة بدون ضمانات ليقفز كمبروفتش من الصفحات الأخيرة لمجلة نزوى ويقول لك:ـ في الأرجنتين لم أكن شيئاً فاستبحت كل شيء.

فأبدأ عندها في التفاقم متأبطاً روائح كمبروفتش ولا أعود بحاجة للتحديق من زجاج الباص المغبش في عمارات الجانب الأيمن بشارع العدين لأختار عمارة على مقاس حلمي بضمانة دخل كبير مما يضطرني للبحث الدؤوب عن عمارة بها دكاكين كثيرة لا تقل عن ثمانية, لأحلم أنها عمارتي دون أن أغفل بالطبع ميزة تخفيض إيجاراتي مقارنة بالآخرين, فلقد اعتدت تضمين نزعتي الإنسانية المتسامحة حتى في أحلامي الساذجة.

أنا بذلك كله أدرك ما الذي يواجهه الفتيان المتخرجون حديثاً والذين يمكنني وضع جزء منهم جانباً في حيز مجموعة المقاومة للعسف العائلي والذي يأتي ذلك العسف كأحد دوافع ولعهم ليس بالمعرفة, ولكن بفن تشييد ملاذات ومتاريس رفض تجارب قوة المحيط الاجتماعي بمقولات الشعراء والروائيين حتى ولو لم تكن تلك المقولات بيانات رفض مباشرة لجبروت المجتمع وجبر الحياة, فالتهكم المرير حتى من الذات قد يُسَرَّي عن روح الكائن الوجودي المضطر.

لذلك كتبت في هذا وحاولت, وبودي كل مغرب لو أنقذ الفتى الذي كنته ليس ببيان ثورة اجتماعية ولكن بهمس إنساني قد يسانده في التحلي بالقدرة على الاختيار بين أن يحزن وأن يكتئب وبين أن يغضب بامتلاء مدرك وبين أن يهستر.

الفن عموماً وتبادل الغرابة والدهشة من تطويحات الحياة, قد يساندان الإنسان في الحصول على المسافة الآمنة بين تذوق قلقه الوجودي وبين الوقوع في قبضة الإحساس المريع بالضياع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق