الجمعة، نوفمبر 30، 2012

قاعة التعذيب


محمود ياسين

تعذيب، محض تعذيب في قاعة الأفراح، وبوجود هذا النوع من الغناء يفترض تسميتها قاعة التعذيب.لا تدري كيف تدافع عن نفسك والفرقة لا تمنحك أكثر من خمس دقائق, الوقت الذي يكفي بالكاد لتلتقط أنفاسك وتدرك هول ما تعرضت له،يصمتون فقط لتعرف ما الذي تعرضت له من هول ومن ثم يعاودون ضربك من جديد،تعذيب ممنهج ،يستخدمون فيه أغاني لا تدري من أين التقطوها، لا هي غناء صنعاني ولا كوكباني ولا حتى موشحات, إنها شيء. شيء مريع يمتزج فيها تركيب غبي من الصلاة على النبي وتدخلات صاحب العود في لحن من مكان غير معروف ثم يضع القليل من أغنية تراثية معروفة ويخلط هذا كله ليقدم لك خلطة الحريو التي تجعلك تحقد على الحريو وعلى أبوه الذي دعاك وتحقد على بقية المعذبين المستسلمين وهم يئنون بصمت .كان علي الإشارة إلى السبب الذي يدفعهم على الدوام لوضع الصلاة على النبي في أغاني زمننا هذا الذي أصبح أكثر خجلاً من الفن, فيخففون إثمه بكم صلاة نبوية والمرور قرب الفن بغير ما شجاعة لاقتراف الطرب كاملاً، وكأنه لا أحد في قاعة التعذيب هذه يحتمل ذنب الأغنية المنتشية التي قد تدفعه للتمايل ،على أن اغنية مثل خطر غصن القنا أو دق القاع دقه أو من اجل عينك أو حتى يا ورد يا كاذي هي بمثابة الاقتراف الكامل للفن بينما تمنح هذه الخلطات أمان المواربة والغمغمة ضمن ما يطلق عليه جان لامبير في كتابه "طب النفوس،دراسة في الغناء الصنعاني " الحساسية العميقة في علاقة المسلم بالفن الذي ارتبط في السياق التاريخي بالفسق ،وهو قد خلص إلى ذلك عندما يصمت الفنان والمستمعون في مقايل صنعاء عندما يؤذن المغرب، ليس تبجيلا للصلاة بقدر ما هو ذلك الإحجام الذي يهرب به الفتى عندما يفاجئه أبوه في وضعية غير محتشمة والتشبيه الأخير من عندي.

مع أنني وددت لو أتجاوز استهداف استقراء الثقافة الشعبية والخروج منها برؤية للنفسية الجماعية غير أن الإذعان الكلي في تلك الصالات يشي بوهن الشخصية اليمنية وإذعانها إجمالاً، ذلك أن هناك على الدوام رفضاً جماعياً لهذا النوع من الضجيج باسم الفن كما نسمع عنه في مجتمعات كثيرة ليست بالضرورة قد وصلت لمدنية الغرب كلها، ثمة من يصرخ: ما هذا، لا تزعجني بهذا الضجيج المؤذي،ولقد تأملت كثيراً في هذه العلاقة بين الإنسان والموسيقى وكيف أن احد أجهزة الاستخبارات كانت تعذب منشقاً بوضع موسيقى في غرفته بلا توقف، موسيقى اختاروها له خصيصاً من معرفتهم أثناء جمع المعلومات بالأنغام التي تؤذي هذا المنشق، وأثناء محاكمة رجال ذلك الجهاز الاستخباراتي في قضية تعذيب هذا المنشق تحديداً، قال الرجل :كانوا يضعون لي موسيقى "لا أذكر اسمها"هو سمى الموسيقى التعذيبية تلك للقاضي ،وسأله القاضي مقطباً "أحقاً كانوا يضعونها لك؟"وأكد الضحية الأمر فيما يشبه مبادلة الدليل القاطع على بشاعة ما تعرض له رجل ينتظر إنصاف العدالة.

اعترضت مراراً على ما تمارسه الفرقة ضدي وكان أخو العريسين يعتذر لي بدماثة وحيرة من لم يدرك تماماً أو يقتنع بوجاهة ألمي ،وكان العود والطبلات العنيفة تحول بيني وبين أذن صاحب الدعوة فلا أتمكن من الوصول لنهاية شكواي، فجأة تنفجر زعقات الفرقة لتدافع بين العود والطبلات وبيانو نصف مفاتيحه تعمل والبقية معطلة، العود وحده والطبلات كل واحدة منها تعمل لحالها والبيانو هناك كأنه يغمغم لنفسه بأشياء غريبة وصوت الفنان لا له علاقة بالعود الذي بين يديه ولا بالطبلات ولا بشيء غير الصراخ فوددت لو يشترغ الفنان بالقات ورحت أُحدَّق في هذه الغارة وكأنني في سوق السبت في مرباع الغنم والقناطين ليتصايحوا على كسبة تجشر وواحد ليدور ابنه ويصيح بكل قوته وعيال عنان"أصحاب "أصحاب السوق" يتراموا على العائد،وحينما أذن المغرب قلت فرجتها ياألله ،ولأول مره ينقذني الدين من الفن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق